رعد أطياف
حين يعجز المنهج وتُركَن المفاهيم جانباً، أو لم يبقَ أحدٌ ليهتدي بهما، فلا سبيل غير الأسئلة البريئة.
حتى لو تورطنا في التبسيط، فسؤال بريء خير من منهج ومفهوم مهملان.
المهم في الأمر أن نخرج بحصيلة مقنعة.
ربما الأسئلة البريئة تنشّط المنهجية وتعزز دور المفاهيم.
فلماذا، مثلاً، لا يستطيع القائمون على الأمر الشروع بثورة بخصوص البنى التحتية قبل نفاد الثروة النفطية؟! الحكومات المتعاقبة، وعلى مدى عقدين، انشغلت بتثبيت مواقعها السياسية، وتركت ما هو أهم، بناء البلد: المؤسسات، التعليم، الصحة، الخدمات، وغيرها من المشاريع الحيوية.
خصوصاً أن حجم الأموال المرصودة للتنمية هي بلا شك أرقام فلكية، ولا عذر مقبولا بعد الآن.
ومما لا شك فيه أن الموازنة الحالية، التي أقرَّها البرلمان، تُعدّ الميزانية الأضخم في تاريخ العراق، حيث بلغت 135 مليار دولار، وهي الميزانية التي تم احتسابها لثلاث سنوات
(2023، 2024، 2025).
وبصرف النظر عن المخاطر المالية والحسابية المحتملة في ما لو هبطت سعر برميل النفط، والإرباك المحتمل لحدوث العجز وغير ذلك، فإن هذا الرقم المهول يمكنه أن يحقق طفرة غير مسبوقة على صعيد التنمية.
على الأقل طفرة تضمن لنا مواكبة أرثنا الحضاري؛ فمن غير المعقول بلد تمتد حضارته لسبعة الآف سنة، وتعاقبت عليه خمس حضارات عظيمة، كان آخرها الحضارة العربية الإسلامية، ما زال الكثير من مواطنيه يفتقرون لسكن عصري يليق بهم، بل لا يملكون سكناً عادياً على الإطلاق.
إنَّ المشكل الأساس في خطابنا الثقافي، هو التعكّز المستمر على إرثنا الحضاري دون أن نترجمه على أرض الواقع.
لقد تناسينا أن من أعظم الحضارات في تاريخ البشر هي الحضارة العربية الإسلامية، وتكمن أحد أركان عظمتها أن المسلمين أسسوا حضارة عظيمة وسط الصحراء، واستطاعوا أن يزلزلوا إمبراطوريات كانت تحكم العالم، وحدث كل ذلك بالإيمان وحده في الخطوات الأولى.
ومما يؤسف له أن المراقب لوضعنا السياسي والاجتماعي لا يخرج بحصيلة إيجابية جراء ما يحدث، ولا يتلمّس ذلك الزخم الحضاري، الذي حولناه إلى خطابات تجريدية محض؛ حيث لا قوة إيمان بأرثنا الحضاري، ولا ترجمة واقعية لخطابنا الذي يتّسم بالتجريد حتى الآن.
يذكر الراحل فالح عبد الجبار ما مضمونه، أنه يسمع دائماً أن السياسة هي صراع على السلطة، والمقصود هو الحمولة السلبية لهذه العبارة، ما يجعل الراحل يضحك على هذا الحكم الغريب، والسبب أن السياسة في جوهرها هي صراع على السلطة.
لكن المتصارعين ربما يغيب عنهم المعنى السامي لهذه الطبيعة الصراعية، وهي الوصول إلى السلطة لغرض الخير العام للبلد، وليس ترجمتها بشكل معكوس، وينتهي بها الحال إلى طموحات شخصية.
ويبدو أن المتذمرين من السياسة، وهم يضيفون عليها حمولات سلبية لا يغيب عنهم ذلك الصراع الخطير الذي ينتهي به المطاف إلى اختزال السلطة بمجموعة من الأشخاص الجامحين حول ملذاتهم الشخصية.
وبالرجوع إلى الميزانية، علينا أن نتفق نسبياً مع أصحاب مقولة «أنظر للنصف الممتلئ من الكأس»، ولهذه المقولة ما يبررها بعد النظر إلى الرقم الهائل للميزانية.
فالمواطن العراقي ينتظر من الحكومة الحالية تحسين نوعية الحياة بالطريقة التي تتناسب وتاريخ هذا البلد، ذلك أن الوظائف وحدها لا تكفي، بل قدي يأتي اليوم الذي تتحول فيه هذه الوظائف إلى وحش كاسر يلتهم ما تبقى من ثروة! حركة التصحيح، والبناء آن أوانها، وهي فرصة مواتية ومثالية لمن يريد أن ينقش اسمه في سجل القادة التاريخيين، ويعلن ثورة تنموية يستعيد فيها العراق دوره الحضاري في المنطقة، ولكي نبرهن للمهتمين بالسياسة، أن الصراع على السلطة هدف نبيل غايته الارتقاء بالحياة والإنسان.