محمد صالح صدقيان
تتفق معظم مراكز الدراسات الغربيَّة بما فيها الامريكيَّة أنَّ ما حدث في السابع من أكتوبر كان «هزيمة استراتيجية» كبيرة للقوة الاسرائيليَّة في جنوابها المختلفة الامنيّة والعسكريّة والسياسيّة؛ وان دخول المقاومة الفلسطينية بعمق 40 كيلومترا داخل حدود الكيان وأسر جنرالات الحرب بملابس النوم كان في حقيقة الامر تعرية للقوة العسكريّة والامنيّة الاسرائيليّة وهي عملية غير مسبوقة في تاريخ الصراع مع اسرائيل.
في مقابل هذه الهزيمة كان من الطبيعي جداً ان تقوم اسرائيل بـ «رد استراتيجي» علی المقاومة في غزة يعيد من خلاله ماء الوجه والمصداقية التي فقدتها اسرائيل في السابع من اكتوبر.
ظروف الهزيمة الاسرائيلية ما زالت قائمة وهي عدم تحقيق اهداف «الرد الاستراتيجي» وهو القضاء علی حركة حماس؛ وكتائب القسام؛ وتحرير الاسری؛ في الوقت الذي ما زالت المقاومة متمسكة بظروف الهزيمة الاسرائيلية وهي فاعليّة اطلاق النار حتی من المناطق التي دخلتها الدبابات الاسرائيلية وبقاء الاسری بيد المقاومة كورقة ضاغطة لتحرير المعتقلين الفلسطينيين في سجون العدو.
ما قامت به اسرائيل بضرب المدنيين من أطفال ونساء في المنطق العسكري والسياسي ليس ردّاً استراتيجياً وإنّما مستنقع سياسي وأمني وعسكري وقع فيه الكيان لانه لم يستطع إجبار المقاومة علی رفع الراية البيضاء أو الضغط علی السكان المدنيين للمطالبة بالشروط الاسرائيلية لوقف إطلاق النار وانهاء الحرب؛ وان قبوله بوقف اطلاق النار كان هزيمة جديدة لانه قبل بالفشل الذي واجهه خلال اجتياحه لشمال القطاع وضرب المستشفيات.
عودته للحرب وايقاف المفاوضات لاطلاق سراح ما تبقی من الاسری مأزق استراتيجي جديد وقع فيه الكيان؛ كما ان استمراره في الحرب وعدم قبوله بوقف إطلاق النار هي هزيمة أكبر لانه عجز عن تحقيق شروطه خلال اكثر من 60 يوما من القتال.
استمرار الحرب ستسبب له نتائج كارثية.
فهي ستسبب المزيد من القتلی للجنود وهزيمة عسكرية بسبب عدم تحقق الاهداف كما انها ستزيد من الضغط الدولي مع عدم تحقيق نتائج ايجابية.
في الجانب الآخر أثبتت المقاومة أنّها متماسكة في جانبها السياسي والعسكري.
قيادة الميدان ما زالت محافظة علی مفاصل الرد بالرغم من سقوط الآلاف من القتلی المدنيين وتدمير المستشفيات ومفاصل الحياة العامة.
الحالة المتوقعة قبول الكيان بوقف اطلاق دائم فاسحا الفرصة أمام الجهود الدبلوماسية والسياسية لترتيب تبادل الاسری لدی الجانبين؛ وما يقوله الكيان بأنّ العملية قد تستمر لمدة شهرين لا ينسجم مع الظروف الاستراتيجية التي يعيشها هذا الكيان الذي فقد مصداقية القوة؛ أما اذا أراد أن يستمر لستين يوم أخرى فإنَّ جميع التقديرات تقول إنّها لن تكون أفضل من تلك التي فاتت؛ في الوقت الذي تتحدث مصادر المقاومة عن تماسك وقدرة للصمود لمواجهة النفوذ العسكري البري داخل القطاع في الشمال والجنوب والوسط.
ما يتم تنفيذ في غزة يشبه الی حدٍّ بعيدٍ ما حدث في لبنان في يونيو تموز من العام 2006 عندما هاجمت القوات الاسرائيلية المقاومة في لبنان علی خلفية خطف جنديين اسرائيليين.
لم تستثنِ الماكنة الاسرائيليَّة مكاناً أو جسراً أو محطة إلا واستهدفتها لتحقيق الأهداف وهي القضاء علی حزب الله؛ وتحرير الجنديين من الأسر.
فشلت هذه الماكنة من ذلك وعدل الكيان من أهدافه بتجريد حزب الله من السلاح ومن مكانته في الحياة السياسية اللبنانيّة.
فشل أيضاً، حتی اقتصرت مطالباته علی إطلاق سراح الجنديين فقط لوقف إطلاق النار.
لكنه فشل ايضا وقبل بوقف إطلاق النار علی خلفية جهود قامت بها الإدارة الامريكيَّة التي كانت تنتظر ولادة «الشرق الاوسط الجديد» من رحم الحرب اللبنانيَّة الاسرائيليَّة بعد القضاء علی المقاومة اللبنانية للتحرك من اجل استصدار القرار 1701 لوقف إطلاق النار وإعطاء الفرصة لتبادل المعتقلين الذي تم بعد ذلك مقابل الافراج عن ما يقرب من الألف لبناني معتقل في سجون الاحتلال.
في حينها اعترف كيان الاحتلال بالهزيمة وشكل لجنة «فينوغراد» لدراسة أسباب هذه الهزيمة والتي ذهب ضحيتها رئيس الوزراء أولمرت وعدد من جنرالات
الجيش.
هذا السيناريو يتجدد الان في غزة ولربما بمستوی أكبر لارتباط النتائج بقضيتين مصيريتين أولهما بمستقبل القضية الفلسطينية؛ وكيف ستكون مآلات هذه القضية؟، وثانيهما من سيحكم غزة بعد الحرب ولمن ستسلم؟، هناك عدة سيناريوهات.
الاول: ترحيل سكان غزة وتوزيعهم بين عدد من الدول العربيّة وغيرها.
هذا المشروع تمَّ رفضه قطعاً من جميع الأطراف المعنيَّة ولا يبدو أنَّه قابل للتنفيذ.
الثاني: تسليم القطاع للسلطة الفلسطينية.
هذا الاحتمال ضعيف جداً لعدم قبوله من قبل الغزاويين وهو مهلكة للسلطة بعد مواقفها الهزيلة حيال الحرب في غزة، وستكون بالفعل شرطي الاحتلال في غزة ولا أعتقد أن تاريخ منظمة التحرير الفلسطينية سيسمح لذلك.
الثالث: ان يعهد الامر لقوات دولية وهو الامر الذي رفضته الامم المتحدة.
الرابع: تتولی اسرائيل مسك الادارة والامن في القطاع وهذا الاحتمال يرفضه الجانب الامريكي الذي يدير الحرب ويحاول ادارة القطاع مابعد الحرب؛ ناهيك أن اسرائيل خرجت من القطاع لأنها لا تريد الخوض بمستنقع أمني عسكري معقد لها.
وأمام ذلك فإنَّ المؤشرات تتجه الی إعطاء الحق لسكان غزة لتقرير من يدير القطاع، وما عدا ذلك عملية لا تنسجم مع الواقع ولا تخدم سوی اطالة فترة القتال التي لا تخدم قوات الاحتلال.
الكيان بدأ بالتراجع السياسي والامني منذ العام 2000 عندما انسحب من لبنان يجر وراءه ثياب الهزيمة.
وتكررت هزائمه في الحرب التي خاضها مع لبنان ومع غزة في جولاتها المتعددة.
هذا الكيان كان يعتمد علی اسطورتين الاولی اسطورة «الجيش الذي لايقهر» واسطورة مظلومية الشعب اليهودي في «الهولوكوست».
هاتان الاسطورتان التي بنی عليها الكيان احتلاله للاراضي الفلسطينية سقطت بعد السابع من اكتوبر فالجيش قٌهر علی يد الشعب الفلسطيني؛ والمظلومية تعرّت بعد أن أصبحت غزة «مقبرة الاطفال».
ومن المرجح ان لا تكون الورقة الاسرائيلية هي ذاتها قبل السابع من اكتوبر لا في الحسابات الاقليمية ولا في الحسابات الدولية بسبب تغيير معادلات القوة وقواعد اللعبة في منطقة الشرق الاوسط.
ولربما احتجنا لحديث آخر عن مآلات التطورات الاقليمية بعد حرب غزة.