علي المرهج
لا أتحدث عن أزمة العقل الغربي رغم أنني أجد أن هناك تزامنا في عالمنا المعاصر بين أزمتي العقل وأزمة الضمير، ولأن العقل يرتكن للأدلة وتوظيف المنطق واستدلالاته للدفاع أو أحيانا لتبرير ما هو غير مقبول لتسويغه وفق رؤية أيديولوجية تتسور بأسوار العقلانيَّة، وهذا ما يحصل في الغرب الذي أنتج لنا فلسفة التنوير ليُبشرنا بأنه يحمل رسالة إنسانية، ألا وهي «تخليص العقل من سباته الدوغمائي» بتعبير «كانت» المستعار من فلسفة (ديفيد هيوم).
قد نحتار بتعريف الضمير تعريفًا منطقيًا وبعبارة القدماء «جامع مانع»، فقد عرّفه العرب بأنّه «ما تُضمره في نفسك» بمعنى أنه استعداد نفسي لتمييز ما هو خير وما هو شر.
في المقابل كانت وما زالت مهمة العقل وفق تعريف أهل المنطق بأنّه «القدرة على تمييز صحيح الفكر من فاسده».
الفرق بين الضمير والعقل يكمن في أن الأول قد يعتمد على الوجدان والعاطفة والحدس، وهي معطيات في المعرفة الإنسانية لا يمكن التحقق من صدقها أو كذبها على وفق رؤى الفلاسفة الوضعيين والتجريبيين، بل وحتى العقليين.
أما في المعرفة العقلانيّة، فهي تتأتى وفق منطق برهاني إما يكون استدلاليًا، أي استنباط المعلوم من المجهول، وهذه معرفة تنطلق من الكليات والبديهيات، أو وفق منطق استقرائي، ينتقل من الجزئيات إلى الكليات. في كلا المنطقين هناك عقل استدلالي لا يرتكن على معطيات المعرفة الحدسيّة أو الوجدانيّة ولا العاطفيّة.
حسب الغرب في سعيه العقلاني كل شيء بما فيها قدرته على انتاج أسلحة الدمار الشامل والأسلحة الجرثومية والكيمياوية، وفي الوقت الذي ساعدته هذه العقلانية على فهم الحرية في البحث وحرية الوصول للمعلومة وحرية الإنسان وصولًا لتنظيرات كبار المفكرين للديموقراطية وسليلتها «الليبرالية»، ولكنهم على ما يبدو تعاملوا مع كل نتاجهم العقلاني على أنه نتاج يجعلهم في المقدمة هم ومن هو حليف لهم.
في كل حادثة تحدٍّ لدولة غربية ما مع دولة مناهضة لها نجد دول الغرب تعود «القهقري» وإنتاج مفهوم «العصبيَّة» بصيغة تحالفات جديدة، فتحضر هذه «العصبيَّة» عندهم تارة بوصفها عصبيَّة دينيَّة، وأخرى عصبيّة عرقيّة، ولا أقل من هذه وتلك عصبيّة الدم التي ناهضتها الأديان وناهضتها أطروحات الفلاسفة في دفاعهم عن التعدديّة والاعتراف بالآخر المختلف، ولكن يبدو أن هذا «الآخر» المختلف أن لم يكن مساوقًا لهم في متبنياتهم الأيديولوجية وأن يكون جزءًا من تحالفاتهم.
أزمة الضمير الغربي تكمن اليوم في التعامل مع ما طال أهل غزة وتغافل حكوماتهم عن المجازر التي حدثت فيها، وشر ما بان لنا هو «أزمة الضمير»، فمن غير المعقول أن يكون هذا الغرب الذي أنتج لنا فلسفات إنسانية ونزعات تنويريّة أن يكون بهذه «الجلادة» و «الصلابة» بحيث يرى آلاف الأطفال والشيوخ والنساء يُقتلون بدم بارد من قبل «الإسرائيلين» وينسى أن فلاسفته هم من نظّروا لـ «حقوق الإنسان»، والأدهى من ذلك والموجع أن الغرب يدّعي أنّه يحمل لواء الدفاع عن «حقوق الحيوان»!.
على الرغم من سعي الفلاسفة الغربيين لتخليص الإنسان من نزعة والوصاية ونقد نزعتي الجهل والخرافة وتحريره من سطوة «الأكلريوس الديني»، وقد نجحوا في هذا أيما نجاح، ولكنه نجاح محفوف بالمخاطر، لأنه نجاح شكلي، وأعني بأنّه شكلي لأنّه يهتم بالدفاع عن «الحرية الجنسيّة» و «حرية المثليين» أكثر مما يهتم بحرية البشر الذين يعون لتحرير أرضهم من
المُحتل!.
في الوقت الذي يُدافع في هذا الغرب عن «حقوق الأقليات» ويُعرّف بعض مفكريه بأنّ الديموقراطية تعني «حكم الشعب للشعب نفسه» يضاف له استدراك؛ مع «الحفاظ على حقوق الأقلية»، بل وتعني في مضمرها «حق تقرير المصير» للشعوب المُضطهدة!، و «ترجيح كفة المعرفة على كفة القوة»!، ويبدو هذا واضحا من تأييد أمريكا لإسرائيل، وتغاضي هذه الدولة العظمى عن حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والأمر من ذلك نسيانها لمبدأ «ترجيح كفة المعرفة على كفة القوة» لتكون الظهير الذي يحمي إسرائيل في ممارستها للقوة في التعامل مع أهل غزة!.
أزمة الفكر الغربي واضحة ولا تكمن وليست مضمرة، لأنه فكر أبان عن وجهه الحقيقي في التعامل مع الشعوب المخالفة له في العقيدة والفكر والأيديولوجيا، فهي ليست معه، وبتحصيل الحاصل فهي ضده!.
موت الضمير الغربي
الغرب بكل نتاج فلاسفته في الدفاع عن حقوق الإنسان ونظريات الفلاسفة في التسامح والاعتراف وحق تقرير المصير ودفاعه عن حرية الإنسان في الوجود والرأي والدفاع عن نفسه وعن أرضه وعن حقه في حياة كريمة لم يكن موفقًا في موقفه من الفلسطينيين.
تغافل العقل الغربي عن كل موروثه في الدفاع عن حق الإنسان في الحياة وحقه في المساواة وحق تقرير المصير.
لا أعرف كيف تسنى لهم وهم الذين يحملون مشعل الدفاع عن حقوق الإنسان أن يقبلوا بأن يُقتل آلاف الأطفال في أي مكان في الأرض.