أ. د. طلال ناظم الزهيري
وفي الآونة الأخيرة، شهد المسرح العالمي طفرة في ثقافة المقاطعة الشعبية، وهي ظاهرة يتحد فيها المستهلكون للتعبير عن معارضتهم، وإعادة تشكيل المواقف المجتمعية، والتأثير على صناع القرار. تاريخيا، لعبت عمليات المقاطعة دورا محوريا في إشعال التغيير، بدءا من مقاطعة الحافلات في مونتغمري، وحتى المقاطعة المعاصرة، التي تستهدف الأفراد والشركات والمنظمات الداعمة لاسرائيل في حربها ضد الفلسطينيين. وتؤكد هذه الحركات الشعبيَّة على القوة الجماعية للناس العاديين في تشكيل العالم من حولهم
أحد الأمثلة الأكثر شهرة على المقاطعة الناجحة، وكما اشرنا سابقا هي مقاطعة الحافلات في مونتغومري في عام 1955. فقد رفض السكان الأميركيون من أصل أفريقي، بقيادة نشطاء الحقوق المدنية مثل روزا باركس والدكتور مارتن لوثر كينغ جونيور، استخدام وسائل النقل العام، مطالبين بإنهاء التمييز العنصري. وأدى تصميمهم ووحدتهم في نهاية المطاف إلى إلغاء الفصل العنصري في الحافلات، ما يمثل علامة فارقة في حركة الحقوق المدنية. وقد حدثت حركات مماثلة على مستوى العالم. في الهند على سبيل المثال، ساهمت دعوة المهاتما غاندي إلى مقاطعة البضائع البريطانية بشكل كبير في استقلال الهند عن الحكم الاستعماري. تؤكد هذه الأحداث التاريخية إمكانات المقاطعة كأدوات فعالة للتغيير الاجتماعي والسياسي. في سياق متصل شهد عقد السبعينيات والثمانينيات، مثال اخر للمقاطعة عندما واجهت شركة نستله، وهي شركة متعددة الجنسيات، انتقادات ومقاطعات واسعة النطاق بسبب تسويقها العدواني لحليب الأطفال في الدول النامية.
اتُهمت الشركة بالترويج لحليب الأطفال الخاص بها بطرق تقوض الرضاعة الطبيعية، وهي ممارسة بالغة الأهمية لصحة الرضع، خاصة في المناطق ذات الوصول المحدود إلى المياه النظيفة والصرف الصحي. أدت ستراتيجيات نستله التسويقية، بما في ذلك تقديم عينات مجانية للمستشفيات والعاملين في مجال الرعاية الصحية، إلى خلق الاعتماد على التغذية الصناعية وتثبيط الرضاعة الطبيعية، ما أدى إلى مشكلات صحية بين الرضع.
بدأ النشطاء ومجموعات المناصرة، مثل تحالف عمل صيغة الرضع (INFACT) وحركة حليب الأطفال، حملة مقاطعة عالمية ضد منتجات نستله. انضم المستهلكون والعاملون في مجال الرعاية الصحية والمنظمات في جميع أنحاء العالم إلى المقاطعة، ورفضوا شراء منتجات نستله احتجاجًا على ممارسات الشركة التسويقية غير الأخلاقية. حظيت المقاطعة بتغطية إعلامية واسعة النطاق، ما أدى إلى زيادة الوعي حول هذه القضية والضغط على شركة نستله لتغيير سياساتها.
تعدُّ مقاطعة نستله مثالا قويا على كيفية قيام العمل الجماعي والنشاط الاستهلاكي بمحاسبة الشركات، مما يؤدي إلى تغييرات إيجابية في ممارساتها وسياساتها. تسلط هذه المقاطعة، إلى جانب العديد من المقاطعات الأخرى، الضوء على قدرة المستهلكين المستنيرين والمنظمين على التأثير على سلوك الشركات وتعزيز الممارسات الأخلاقية في إنتاج وتسويق السلع. وفي عالم اليوم المترابط، أدت وسائل التواصل الاجتماعي والمنصات عبر الإنترنت إلى تضخيم تأثير المقاطعة، مما مكن الناشطين والمواطنين المعنيين من حشد الدعم بسرعة. ومن الأمثلة البارزة على ذلك دعوات الشعوب العربية لمقاطعة منتجات الشركات الداعمة لاسرائيل في حربها الجائرة على سكان غزَّة، وخاصةً سلسلة مطاعم ماكدونالدز، رداً على دعمهم المتواصل لإسرائيل على حساب الفلسطينيين.
يمكن لهذه المقاطعة اذا ما أحكمت أركانها أن ترسل رسالة واضحة إلى باقي الشركات والحكومات حول قوة تاثير المقاطعة العربية في تغير المواقف من القضايا العالمية الحاسمة. اذ يمكن أن تكون للمقاطعة عواقب بعيدة المدى على الشركات. عندما يصوت المستهلكون بأموالهم، تضطر الشركات إلى إعادة تقييم ممارساتها وسياساتها. واستجابة للضغط العام، تقوم الشركات في كثير من الأحيان بتعديل سلوكها، وتبني ممارسات أخلاقية، والمشاركة في مبادرات المسؤولية الاجتماعية.
وهذا التغيير ليس رمزيا فحسب؛ إنه يعكس تحولا في القيم والتوقعات المجتمعية. وبينما نواجه تحديات عالمية معقدة، لا يمكن الاستهانة بقوة المقاطعة الشعبية. وهي بمثابة أدوات فعالة للدفاع عن العدالة الاجتماعيَّة، والحفاظ على البيئة، وحقوق الإنسان. ومن خلال تسخير الصوت الجماعي للمستهلكين، يمكن لهذه الحركات أن تشجّع الشركات والحكومات على مواءمة أعمالها مع قيم الأشخاص الذين تخدمهم. في الختام، لقد أثبتت المقاطعات الشعبية مراراً وتكراراً أنها عوامل محفزة للتغيير.
ومن المعالم التاريخية إلى الحركات المعاصرة، تظهر هذه المبادرات القوة الدائمة للمواطنين العاديين لتحدي الظلم، والمطالبة بالمساءلة، وتشكيل عالم أكثر إنصافا. وبينما نمضي قدمًا، دعونا نتذكر دروس الماضي ونستمر في تسخير الإمكانات التحويلية للمقاطعة الشعبية لبناء مستقبل أفضل للجميع.