حمزة مصطفى
يقفُ وائل الدحدوح على الحدِّ الفاصلِ بين الحلمِ والخريطة.
خسرت الصواريخ حربها معه.
وائل كأي فلسطيني ولدَ مع أول المآسي التي حلَّت بفلسطين والعرب عام 1948 لا مثلما مثبتٌ في هويته الشخصيَّة 1970.
كل السنين التالية من بعد عام النكبة مجرد تفاصيل ترمم ما تهشم من خرائط ومواقع.
في التفاصيل لم يكن عام 1970 سنة ولادة وائل البيولوجيَّة سوى عام أيلول الأسود.
وقبله بثلاثة أعوام «نكسة حزيران» 1967. إذن «سجل أنا عربي» بلغة محمود درويش الذي نحتاجه دائماً ليُرمّمَ ما تحدثه المآسي والنكبات من جروحٍ فينا.
«سجل أنا عربي ورقم بطاقتي خمسون ألفاً». هذه كانت لغة محمود درويش قبل «مديح الظل العالي» «وعابرون في كلام عابر».
المآسي تتكرر ومعها المزيد من الصواريخ والترانسفير والشهداء.
ليس هناك في فلسطين الممتدة على كل الخرائط والوجع أرامل وثكالى. مفردات اللغة لا تتسع لمزيدٍ من الصفات والأوصاف والمتواليات.
هناك شهيد وشهيد حي. هناك أشلاء تمشي ومقابر لا تتسع لكل الذكريات. المسيرة تستمر مع كل ولادة وكل موت وكل حرب وكل صاروخ وقذيفة.
لا يهم أين تقع أو أين تسقط. على جسد على جسر على حجر على قلب. لا يهم ذلك أبداً. لا فرق بين جدٍ وحفيدٍ طالما الولادة واحدة (1948) والموت يتكرر.
تكرار الموت لا يعني فجيعة جديدة بل استمرار في التفاصيل المملة.
وائل الذي رثى زملاء له ماتت أسرهم من بعد موت أسرته وجد وقتاً كافياً ليبعث لي رسالة. رسالة وائل التي ختمها بجملة عجيبة لا تليق إلا بفلسطيني من طرازه (نراكم على خير). رسالة وائل الدحدوح كانت رداً على مقالي (حرب وائل الدحدوح) المنشور في جريدة «الصباح» الاثنين الماضي. وائل أخذ رخصة من الصواريخ لكي يقرأ المقال بإمعانٍ ويرد عليه.
يكتب ويشكر ويحمد الله. لست أعرف كيف سمحت الصواريخ لوائل أنْ يردَّ على مقالٍ وأنْ يعبرَ بكل ما في اللغة من جرأة البوح بما تختزنه ذاكرة الموت اليومي الذي يتجول في كل شوارع غزة وأنفاقها ويتسلل الى حروفنا وكلماتنا بين وجع ووجع.
هذه هي رسالة وائل الدحدوح الجوابيَّة على المقال الذي أرسله له زميلنا وليد إبراهيم المدير السابق لمكتب الجزيرة في بغداد «بارك الله فيكم جميعاً وأرجو أنْ تبلغه احترامي وتقديري وشكري وأرجو الله أنْ يوفقنا ويمدنا بأسباب الصبر ونراكم على خير».
ماذا ينفع مقال لمداواة ألمٍ ينزف؟
أعرف أنَّ هذا السؤال اعترافٌ مسبقٌ بالتقصير، لكن، ربما، بالنسبة لوائل وربما لكل فلسطيني أنَّ فلسطين الحلم والواقع والخريطة تقفُ دائماً على الحد الفاصل بين اللغة والرصاصة.
كان وائل شجاعاً قياساً لسواه. لنا ولغيرنا. لي شخصياً حين عددت أنَّ الحرب الجارية الآن في غزة وبعد استشهاد أولاد وائل وزوجته باتت حربه هو «حرب وائل الدحدوح» مثلما هو عنوان المقال، لكنَّ الأمر يختلف بالنسبة له والقياسات كما الفوارق لا تستقيم مع ما يريد وائل الوصول إليه. وائل لم يختزل الحرب بفجيعته الشخصيَّة.
كل فجائع الفلسطينيين شخصيَّة حيث لا فرق بين الأرض والأم كما الزوجة والابن والحفيد. لو لم يكن وائل، وائلنا الدحدوح نقطة أو رمزاً أو موقعاً على الخريطة التي لا تتجزأ لغادر المشهد والشاشة بعد ما بدا أنَّها خسارة شخصيَّة «زوجة وأولاد وحفيد». لكنْ ماذا عن فلسطين؟
وائل يكتب لي «نراكم على خير». وائل يريد أنْ يعلمني الصبر ويزرع فيَّ الأمل.
لم يغادر الشاشة لأنها هي ساحة المعركة المفتوحة على حلمٍ قادمٍ لن تقهره كل صواريخ نتنياهو.
من حق وائل الاعتراض على العنوان كأي فلسطيني نذرته القضيَّة لنفسها. عندها تختلفُ موازين القوى وقواعد الاشتباك كما يسمونها.
الحرب هي التي تحاربه. الصواريخ هي التي تتساقطُ فوقَ قلبه فينفجر فيها فتموت.
وفي مقابل موتها تتفتح أشجار الزيتون.