آية منصور- واع- السماوة
أم محمد سيدة عراقية قررت أن تقف إلى جانب النساء في مختلف محطات حياتها، وتقديم المساعدة لهن بأساليب متعددة ومتجددة، تصدت المربية المخلصة لمهمة تعليم النساء الأميات ولم تدخر جهدًا في ذلك وتنقلت بين مدارس محو الأمية في قضاء الخضر/ السماوة بكل تفانٍ، ثم سحبتها فكرة أخرى لدعمهن.
تجاوزت حدود المألوف وابتكرت دعم النساء اللواتي تعاطين معها خلال أيامها العملية والتدريسية، تمثلت هذه الفكرة في إحياء وتجديد التراث المحلي، حيث قامت بإعادة صياغته وتجسيده بأسلوب يحافظ على جوهره التقليدي ويمتدح التواصل مع التراث الموروث، كيف ذلك؟ لنقرأ.
سيدة الحرف اليدوية
عادت السيدة "التفات"، الملقبة بـ"أم محمد"، إلى الجذور والتراث من خلال جهودها الرامية إلى إحياء صناعة الأُزر والبُسط وغيرها من التراثيات.
بدأت بترميم هذه الصناعات التقليدية بشكل يدوي ومحلي، متجنبة اللجوء إلى المنتجات المستوردة وألقت الضوء على الحرفة المعروفة باسم "مد الركم"، والتي تمثل تراثا يدويًا تعبيريًا يحمل الجانب الاجتماعي للثقافة الجنوبية للعراقيين، وتعكس رموز الحضارة السومرية، وعلى الرغم من قيمتها، إلا أن هذه الحرفة كانت تتجه نحو الاندثار، لكن "ام محمد" تمكنت من إعادة إشعال شرارة الاهتمام بها وإعادة إحيائها بتصميم مبتكر.
أم محمد، نبذت هذا الوضع المحتم وواجهته بقلب مليء بالشغف، حيث تجلى في قلبها خوف من اختفاء واندثار هذا التراث القيم، ولم تتردد في ترميم أواصرها مع الماضي والعودة إلى مهارتها في حياكة البسط والأُزر، وحياكتها للبسط أصبحت تجسيدًا حيا لذكرياتها.
تقول أم محمد في حديثها لوكالة الأنباء العراقية (واع):" بدأت رحلتي التعليمية على يدي جاراتي، اللواتي يجتمعن يوميًا ليقمن بصبغ وغزل الخيوط ونسجها لتكوين البسط والأُزر، من خلال المشاهدة والمشاركة، اكتسبت مهارات الحرفة ببراعة.
الحب الجماعي
وعلى مبدأ المشاركة والتواصل، بادرت أم محمد إلى نقل معرفتها إلى جاراتها عن طريق تقديم دروس مجانية تهدف إلى تعزيز مهاراتهن في هذا المجال، ولكن مع مرور الزمن، قررت أن تستمر في ممارسة هذه الحرفة بنفسها، حيث أصبحت هذه الصناعة تمثل جزءًا من هويتها ومكونًا أساسيًا في حياتها، وخاصة مع تراجع الاقتصاد العراقي بعد عام 1991، وانخفاض الاهتمام بالصناعات اليدوية، أصرت على الاستمرار في نسيج هذا التراث بأناملها الخبيرة تكمل بقولها لواع:" بات من المخيف أن يبقى من هذه الحرفة بضعة متاجر فقط، وهذا وضع يتطلب تداركًا سريعًا، لذا قررت بإصرار وعزيمة أن أعيد تأسيس هذه الصناعة إلى مكانتها المستحقة وتحوّلت الآفاق والتحديات إلى فرصة للعمل الإيجابي، حيث إني بدأت مهمتي الحقيقية في مساعدة هؤلاء النساء على تحقيق استقلالهن المالي، بدأت بتوجيههن وتعليمهن كيفية تحويل مهاراتهن في صناعة البسط والأُزر إلى فرص عمل حقيقية".
من خلال منصبها كرئيسة لجمعية" خولة بنت الأزور" النسوية، تعيش "أم محمد" تجربة تفاعل مباشر مع النساء، مما دفعها إلى اتخاذ خطوات فعّالة لمساعدة النسوة المتعففات والأرامل والمطلقات.
وتضيف في حديثها،" قررت منح دورات تعليمية تشمل فنون الخياطة والحياكة وصناعة البسط اليدوية لهؤلاء النسوة، اللاتي يمتلكن الشجاعة والرغبة في التطور، وبدأت بتجميع مجموعة من النساء المتحمسات من القرية، وبدأنا معًا في تناول موضوع إحياء التراث، عبر جلسات النقاش والتفاعل، تم توزيع المهام والأدوار بينهن لتحقيق هذا الهدف المشترك".
وتتابع،" تبدو النسوة كخلايا نحل نشيطة، حيث تقوم إحداهن بغزل الصوف، وأخرى تتولى مرحلة الصبغ، وثالثة تقوم بالحياكة، ورابعة تقود العمل الجماعي بشكل مثير للإعجاب، وتقوم هذه النساء بالعمل تحت إشرافي، حيث تقوم كل سيدة بالعمل بدءاً من شراء الصوف، ومن ثم تنظيفه وغزله باستخدام المغزل الخشبي، يتبع ذلك مرحلة غسله وتجهيزه للصبغ، حيث يتم تحديد الألوان المناسبة لكل كرة من الصوف".
صنع في العراق
هذا العمل يجسد كل مراحله من خيرات البلد، بدءًا من الصفر وصولاً إلى اللحظة الأخيرة في عملية إنتاج الإزار، حيث تستخدم مواد محلية عراقية دون اللجوء إلى الاستيراد، ولا تقف أم محمد وحيدة في هذا الجهد، حيث تُظهر القوة والتحفيز الذي تتلقاه من زوجها وأبنائها الذين يعملون جميعًا في مجال التربية والتعليم، وعلى الرغم من التحديات والجهد المبذول، فإن زوجها وأبناءها يقفون بجانبها بتشجيع ودعم قوي، تكمل قائلة:" في البداية، كان زوجي متشككًا في هذا العمل الشاق والمجهد بسبب صحتي، ولكن مع مرور الوقت، تغيرت آفاقه وأصبح شريكًا فعّالًا في هذه القصة، يشارك في شراء الصوف والألوان ويقترح نقوش النمط والتصميم معنا".
عمل سومري
يشتهر عمل "أم محمد" وفريقها باستخدام العديد من النقشات التقليدية والتراثية، ومن بينها النقشات السومرية، ويتم استعادة أشكالها من السجلات التراثية وإعادة تجسيدها بأيديهن، ومن بينها كذلك "نقش الركمة"، "جف صبيحة"، "البامية"، "العكافي"، و" الحيوانات"، بالإضافة إلى الرموز القديمة وفقاً لأم محمد.
وتكمل في حديثها، أن" هناك نقاشات يومية مستمرة تجري بيني وبين فريق العاملات، حيث يتم تبادل الأفكار حول اختيار النقشات والألوان المناسبة لكل قطعة، ويتيح هذا النقاش لكل عاملة التعبير عن ذوقها الشخصي وإضافة لمساتها الفردية إلى العمل الجماعي، مما يجسد تفاعلهن واندماجهن في عملية الإنتاج"، وتضيف بالقول:" اليوم، تشارك أكثر من ثمانين سيدة في هذا المشروع، وهن ينتمين إلى فئة المتعففات، يعملن بجهد لإسناد عوائلهن من خلال مهاراتهن التي تزخر أيديهن بها، إنهن يتسمن بروح جبارة، حيث لم تجد منهن أي تخاذل أو تهاون، يعملن لساعات طويلة ويشاركن فيما بينهن بالضحك والتشجيع، وتتبادلن الأخبار والتجارب بحب وتواصل".
بحاجة للدعم
تستفيد "أم محمد" من العديد من الفرص للترويج لمشروعها ودعمه، وتشارك بانتظام في المعارض والفعاليات المحلية والدولية، وتعرض منتجاتها في السفارات والمعارض المختلفة، وبفضل هذه الجهود المستمرة، تمكنت من تأسيس جمعية "المستقبل" الفلاحية، التي تهدف إلى تطوير وتوسيع نطاق الأعمال المتعلقة بالأُزر في العراق، وتحرص على أن تكون دائمًا مرفوقة بفريق من العاملات عند زيارتها للمحافظات، حيث تقوم بالعمل مباشرة وتعرض منتجاتهن أمام الجمهور، مما يسهم في توضيح وتسليط الضوء على جهودهن الحقيقية.
وتتابع،" نجحنا في الضغط على منظمات و جهات حكومية لتوفير سكن مناسب لنا، وحصلت على دعم من البنك المركزي العراقي لبناء مركز يستوعب العاملات، وعلى الرغم من تأجير المكان الحالي ككرفان، إلا أني سعيت لشرائه وتمليكه لضمان سلامة العاملات وإعادة بنائه وإبعاد خطر "الكرفان" وأواجه صعوبات في الحصول على الموافقات اللازمة لهذا الأمر".
مع هذا، يستمر النسوة في العمل بجد واجتهاد، حيث يتمكن من إنجاز العديد من القطع يوميًا، ولديهن الآن أكثر من ألف قطعة جاهزة للبيع، يتم بيع هذه القطع أحيانًا للسياح أو المنظمات غير الحكومية، مما يشكل مصدرا إضافيا للدخل، وهن بحاجة للدعم المعنوي من قبل الجهات المختصة لزيادة البيع والدخل.