تحدث (هنتر ميد) في كتابه (الفلسفة: أنواعها ومشكلاتها) عن نوعين من الفلسفة، الأولى هي الفلسفة الشعبية، وهي فلسفة تأتي على لسان الناس العاديين الذين يشكلون على الوجود من دون وجود أجوبة واضحة لديهم عن أسباب هذا الوجود، وقد تجد فيهم من هو مثالي، ولا يعرف المثالية، أو واقعي ولا يدرك بأنه يتحدث بلسان الفلسفة الواقعية، أو كما سميت بـ «الواقعية الساذجة».
وقد تجد الحكمة كما يُقال على لسان المجانين، وليس فقط الناس العاديين، ولكن هذا لا يجعلهم فلاسفة، ولك أن تشمل معهم الأطفال بأسئلتهم المحرجة عن أصل وجودهم، وعن الله هل هو يعيش معنا أم بعيدا؟ وعن أجبتهم بأنه بعيد يسألونك أين يعيش؟ ولم هو بعيد؟، ولم خلقنا، ولماذا نحن نحب الله؟، وغيرها من الأسئلة المحرجة التي لا جواب واضحا لها حينما يسألها الكبار، فكيف إذا سألها الأطفال؟!.
تحدث (هنتر ميد) عن الفلسفة المنهجية، وهي الفلسفة التي جاءت على لسان الفلاسفة، الذين حاولوا طرح أسئلة الوجود بوعي عقلاني وإعمال الذهن في البحث عن إجابات عن أصل الوجود، هل هو مادي أم روحي أو مثالي أم عقلي؟، وهل بمقدرونا إدراكه بالعقل أم بالحس أم بالحدس؟.. وكيف يتسنى لنا معرفة علّة الوجود وعلاقتها بالوجود؟، وما هي صفات علّة الوجود الأولى؟.. إلى غيرها من الأسئلة التي لا تنتهي، وإن حاول جل فلاسفة الأنطولوجيا والميتافيزيقا الجواب عنها كل حسب متبنياته الأبستيمولوجية.
ما نقصده بالطفل هو الصبي الذي لا يتعدى عمره الثلاثة عشر عامًا، لأنه ما زال لم يدخل المراهقة، ولم ينتقل لمرحلة الشباب، وهو قد تأتي الأسئلة الفلسفية عنده عفوية بامتياز، لذلك قد نجد في ما يقدمه من أسئلة بعض من نزوع للتفلسف، ولكن تركه على عفويته، كما أعتقد، في هذه المرحلة العمرية أفضل من إقحامه في أسئلة (سلسة الوجود الكبرى) بتعبير (أرثر لفجوي) في كتابه الذي يحمل العنوان ذاته.
قد يكون (جون دوي) هو الفيلسوف الذي تمكن من معرفة طريقة التفكير عند الأطفال، لا سيما في كتابيه «المدرسة والمجتمع» و»الديموقراطية والتربية»، والتي تعتمد على تعليم الأطفال كيفية الإتصال بالطبيعة والعيش فيها، وهم أحرار في طريقة تفكيرهم واستنتاجاتهم وتمردهم، أو ما أسماه «التعلم بـ «الممارسة»
وأكد في كتابه «المدرسة والمجتمع» أن المدرسة هي تعليم فن العيش، تبتدأ بمرحلة اللعب، ومن ثم الاهتمام، وبعدها نعمل على الاستجابات عنده، التي يعمل المعلم لا على توجيهها بحسب رغبته، بل بترك الحرية للطفل في إلإختيار من دون فرض خبرة المعلم عليه، وجعل الطفل المتعلم رهينا لرؤيته.
لا أعرف لماذا يُصرّ الفيلسوف «مونتاني» على ضرورة تعليم الأطفال الفلسفة منذ «الرضاعة»، وهناك فرق بين أن نسعى لتعليمهم، وبين تركهم يُفكرون بحرية، قد يُنتجون أسئلة فلسفية كبرى بحكم عفويتهم، فكل إنسان لحظة وجوده في هذه الحياة، قد تجده يُعبر في تعابير وجهه أو قول يُصرح له عن دهشته بهذا الوجود، والدهشة هي أول عناصر التفكير الفلسفي الفطري، وثانيها هو القدرة على طرح الأسئلة كما تؤكد «شيروتي»، ففي مقابلة لها بمناسبة (اليوم العالمي للفلسفة) مع صحيفة (ليبراسيون) الفرنسية، تؤكد (إدويج شيروتي) فيلسوفة الطفولة، وحاملة كرسي اليونسكو للفللسفة مع الأطفال «أن الإنسان كلما كان أصغر، طرح أسئلة فلسفية من دون رقابة ذاتية أو خوف،.. فضلًا عن أنهم بمقدورهم أن يطرحوا أسئلة مُحرجة عن العلم لا يجرؤ الكبار على طرحها أو طرحها على أنفسهم».
تطرح الفيلسوفة سؤالا لطفل في لقائها الذي نشره موقع الجزيرة «هل يُمكننا أن نكون سعداء ونحن في الوقت نفسه أشرار؟، وهل الأشرار في النهاية أكثر سعادة من الأشخاص الجيدين»؟!.
وقد يكون تفلسف الطفل في أسئلته المحرجة أكثر أهمية من أسئلة الإنسان الكبير الذي يعي ما يقول، لأن الإنسان الكبير يحسب ألف حساب لما يترتب على أسئلته من تبعات، لذلك تكون أسئلته محدودة بحدود مصالحه، وبما لا يضر في وجود في هذا العالم، بينما نجد في أسئلة الطفل نزوعا فطريا للتفلسف، من دون حسابات لتبعات أسئلته. أن يُفكر (خارج الصندوق)، بل كثيرًا ما يكسر الصندوق من دون قصد، ولكنه يُشكل على متبنياتنا الجاهزة لعقيدة ما أو أيديولوجيا ما، بل وحتى فلسفة نتبناها بعد تعلم وتمترس معرفي صلد.
والتفلسف عند الأطفال، بل وعند الإنسان البسيط لا يُعلم، إنما هو يوجد عنده بالفطرة، فلا قدرة للطفل ولا عند الإنسان البسيط على بناء استدلالات عقلية ومنطقية من دون تدريب وتعلم ومعرفة لمضامين الدرس الفلسفي المنهجي، الذي تحدث عنه «هنتر ميد» في كتابه الذي أشرنا له في بداية المقال.
الإعمار: إحالة 24 مشروعاً جديداً للتنفيذ
الأنواء الجوية تعلن كمية الأمطار المسجلة خلال 12 ساعة
الكهرباء: خطة من أربعة محاور لدعم قطاع التوزيع