نازك بدير*
ما معنى أن يحدث زلزال بقوة 7،8 على مقياس ريختر في مناطق تطحنها رحى الحرب منذ اثنتي عشرة سنة، في حارات لا تزال شرفاتها مفتوحة على النار والموت، أولاد جعلوا «الموت لعبتهم»، عمّدهم المطر ظلالًا على الجدران، بعد أن حفروا بأصابعهم الليّنة أسماء أمهّات استشهدن، وحبل السرّة معقود، ولمّا تُكشَف الوجوه بعد.
أن تكون في بلاد متصدّعة، جراحاتها مفتوحة، العيون فيها لا تنام، في بحْث دائم عن وطن تحالفت ضدّه قوى الإرهاب. أطفال في المهد روّعهم أزيز الرصاص ووجوه الدواعش، وصِبية أَحرِق آباؤهم على مرأى من ناظريهم، ونسوة تعرّضن لشتّى أنواع التنكيل. في الألفيّة الثالثة، طفلة لا تتجاوز الخامسة من العمر، تستغيث من تحت الركام، تسأل المسعف أن ينقذها وتصبح خادمة له! أيّ طفولة عاشتها؟ وأيّ حيوات مرّت عليها؟ أيّ مرارات تجرّعتها؟ وأيّ يوميّات ترسبت في ذاكرتها لتنتج هذا الخطاب الدامي! في مملكة الحزن والأسى، كُتِب على الناجين أن يعيشوا طعم الموت كل لحظة، تشرّدًا وذعرًا وألمًا، أن يموتوا مع كلّ جثّة يتمّ انتشالها من تحت الأنقاض، ومع كلّ أنين يطلقه أحد العالقين في العميق العميق من الركام، ومع كلّ قطرة دم تنزف من جرح لن يلتئم، والضحايا عالقون تحت المباني المدمّرة...
التواجد في بلد محاصر قد يكون نظير العيش والأوكسيجين يصل إليك على دفعات، فكيف إذا ما اهتزّت الأرض من تحت قدميك، وأنت على هذه الحال؟ أنفاس أتخِمَت من رائحة الموت والبارود والجثث، وكان الزلزالُ ليدفن الإصرار على الحياة في مواجهة الدمار، ليمحو، في لحظات، جهود سنوات قضتها عائلات تناضل لتستعيد وجودها، لتنبت مجدّدًا من بين فكيّ القتل والذبح، قدرها أن تنجو من الموت العبثي لتكون شاهدة على مأساة لا تقلّ بشاعة عن الحرب.
لا يكفي أنّ طلائع قوافل الإغاثة الطارئة تأخّرت أكثر من 100 ساعة لدخول المناطق المنكوبة، لكن ثمّة كارثة أخرى تواجه سوريا على حدّ تعبير» مايك راين» مدير الخوذ البيض، تتمثّل في فقْد الأرواح بسبب نقْص المعدّات ذات الفعاليّة ونقْص الديزل لتشغيل الآليّات الثقيلة وعدم وجود ملاجئ. الدم لا يزال رطبًا والضحايا تحت الركام، فيما وسائل الإعلام تستثمر بالدماء وتتاجر بالمنكوبين وتستغلّ ما حدث لأغراض سياسيّة خدمة لمشاريعها.
التوقيت الآن بنبض قلوب الأطفال والمنكوبين في جنديرس، وجبلة، وأعزاز، وحلب، واللاذقيّة، وإدلب، وجميع المناطق المنكوبة في الشمال السوري، وفي كهرمان مرعش وغازي عنتاب وهاتاي وأديامان وملاطيا. الوقت ليس وقت تمييز بين ضحايا الكارثة، ولا وقت تأجيج الصراعات وإذكاء الفتن. الإنسانيّة هي الخاسر الأكبر في هذا التوحّش المتمادي.
لعلّ التشوّهات النفسيّة والعقليّة سترافق «الناجين» سنوات طويلة، وسيتعرّضون إلى «صدمات مركّبة»، وهذه التبعات أبعد من النتائج المباشرة. وإن أعيد لاحقًا بناء ما هدّمه الزلزال، فسيكون من الصعوبة بمكان ترميم التشقّقات الداخليّة، وردْم الفجوات العميقة إلّا في كنف المساندة المجتمعيّة المحليّة والدوليّة.
كاتبة لبنانيّة