علي المرهج
بقي مفهوم الاقتصاد الثقافي غير واضح المعنى في الثقافة العربية، وأغلب من كتبوا عنه هم من علماء الاقتصاد لا المثقفين، وكل همِّ الاقتصاديين ربط الثقافة في الاستثمار والربح، أي كيف يجعلون من الثقافة سلعة تباع وتشترى؟، وكيف يتسنى لهم تحقيق ربح أو «قيمة فورية» بتعبير مستعار من فيلسوف البراجماتية (وليم جيمس)، لكن المشكلة تكمن في أن أغلب الفنون والثقافات الإبداعية لا تحصد ثمارها وفق مبدأ «القيمة الفورية» ولا تعامل معاملة السلعة، التي نشتري وربما نعرف أوان بيعها أو احتكارها لمدة لتحقيق أرباح عالية وفورية منها.
كم من مبدع في الفن أو الأدب لم تُكتشف قيمة ما أبدعه إلا بعد مرور عقود من السنين؟!، لذلك فما يصح في الاقتصاد بقصد تحقيق الربح الآني لا يصح على الفنون والثقافة حينما نسعى لتسليعها وجعلها مصدرا للربح أو
الخسارة.
همّ الاقتصادي هو تحقيق أعلى ربح ما في حال قدرتهم على إنتاج سلع يُقبل عليها المستهلك أنتجت بأقل الأثمان، ومن ميزات الاقتصاد معرفة حاجة المستهلك وطرق إنتاج السلع وتوزيعها، بمعنى تضخيم رأس المال المادي لمالك وسائل الإنتاج، بحكم معرفتهم لأوان العرض والطلب... إنتاج مادي يُقابله ربح مالي.
في الثقافة والفنون، إنتاج بغرض المعرفة والتمتع بها والتعبير عن رفض أو قبول لوضع اجتماعي أو سياسي أو اقتصادي ما، بمعنى ـ وهو ما يحصل كثيرًا رفض الثقافي لكل ما هو مقبول في سوق المتعة، واللذة الأنوية التي تُحققها السياسة أو الاقتصاد أو شعبوية السائد اجتماعيًا.
ما أعرفه عن مفهوم الاقتصاد الثقافي مرتبط بما يمتلكه المبدع أو الكاتب من نصوص إبداعية، تختصر التعبير عن الفكرة بما يجعل المتلقي مشاركًا له في فهمها أو تأويلها اليوم أو غدًا، لأن الرأسمال الرمزي للثقافة قد لا تُقطف ثماره بمثلما يقتطف الاقتصادي ثمار استثماره في الرأسمال المادي.
أشار زكي نجيب محمود في كتاباته لفهم آخر للاقتصاد الثقافي، حينما نقد ظواهر كثيرة في الفكر العربي والإسلامي في كتابه «تجديد الفكر العربي»، الذي أشار فيه إلى كثرة الشروحات والهوامش على تفاسير ونصوص فلسفية بعضها لا يحتاج هذا الكم من الشروحات، ولكنه وجد أن واحدة من مشكلات الثقافة العربية والإسلامية هي هوس كثير من كتاب التراث فيها في الشرح وشرح الشرح للمتون، رغم قدرة بعض الشراح لما يمتلكون من طاقة عقلية إبداعية على أن يُنتجوا ماهو أهم من
الشرح.
في كتابه «بعد خراب الفلسفة» أشار أستاذنا (مدني صالح) لمفهوم «الاقتصاد الثقافي» حينما أكد «أن الفلسفة الإسلامية كلها يُمكن أن تُختصر موضوعاتها الأساس، بينما جاء في كتاب الفارابي «آراء أهل المدينة الفاضلة» أو في كتاب ابن طفيل «حي بن
يقظان».
جميع أصناف التنمية الاقتصادية والبضائع السلعية والخدمية والنقدية تقبل الحيازة والاحتكار، أما البضاعة الثقافية الإبداعية ـ بتعبير مدني صالح ـ «فلا تقبل الحيازة الملكية ولا التملك الفردي ولا الملكية الخاصة ولا تجوز فيه المضاربة والاحتكار والمُراباة، لأن الحيازة الإبداعية بضاعة ثقافية وخبرة تاريخية لاتزدهر ولا تُثمر إلا بالتأميم لجميع الشعب في الوطن والتدوي لجميع الشعوب في العالم».
الثقافة من عوالم الأمل والحلم والتصورات الجمالية التي تكشف عن هوية كل أمة يُجيد مبدعوها «الاقتصاد الثقافي» في تقديم إبداعاتهم الذاتية وكأنها تعبير عن حياة وتاريخ مجتمع
بأكمله.
أجلى تعبير عن «الاقتصاد الثقافي» في كل مجتمع حي، حينما يتمكن من أن يجعل مبدعًا منه أيقونة للتعبير عن حضارته، فسقراط «اقتصاد ثقافي» لحضارة يونانية، وكذا الحال مع افلاطون وأرسطو، كما هو الحال مع الفاربي أو ابن طفيل أو ابن رشد وغيرهم الكثير هم تعبير عن الإبداع الحضاري في كل أمة حيّة.