د. عبد العظيم السلطاني
في أي مجتمع ينشدُ الحياة ويراقب فعله الثقافي كي يرتقي به؛ يكون استذكار رموزه الثقافيّة والاحتفاء بهم أولويّة ثقافيّة لديه. لأنّ ثقافة الاستذكار تلبي استحقاقات أخلاقيّة لأولئك الكبار الذين قدّموا للمجتمع ما ينفع ويثري قبل أن يرحلوا. والثقافة العراقيّة ليست خارج هذا القانون الثقافي والأخلاقي. ففي الثقافة العراقيّة أسماء ورموز مهمة قدّموا الشيء الكثير ثمّ رحلوا، وجاءت بعدهم أجيال لم تعايشهم، وربّما لم تطّلع على ما أنجزوا اطلاعا كافيا. واستذكار هؤلاء واجب علينا نحن الذين نعيش الآن، وهو في الوقت نفسه حق لهم ونفع لنا. فهو ينفع الذين لم يطّلعوا على نتاجهم فيكون الاستذكار سببا لينظروا فيه، حين يفتح أبوابا على تلك الشخصيات وما أنجزت، فيكون بذلك فرصة وتحفيزا لمن لا يعرفهم ليقرأ ويعرف. والاستذكار ينفع حين يسوّق ضمنا وجها إيجابا من وجوه الثقافة العراقيّة، فهو يقول ضمنا: إنّ الثقافة العراقيّة ليست ناكرة للجميل، ولا تدير ظهرها للرموز الذين نفعوا الثقافة والمجتمع، ثمّ يقول، أيضا: إنّنا مجتمع له هوية ثقافيّة جامعة وله انتماء، ولسنا أفرادا ومجاميع ألقتْ بنا الصدفة على هذه الأرض التي اسمها العراق.
وهو ينفع من جهة ترميم أنساقنا الثقافية الراهنة وهي تعاني من جسامة التحديات. فاستذكار نازك الملائكة والاحتفاء بتجربتها، مثلا، إنّما هو تحريض على الارتقاء الثقافي، من خلال تكريس ثقافة المواجهة والتعبير عن الذات. فنازك في نهايات أربعينيّات القرن العشرين أنجزت شعرا حداثيا كسر الرتابة. وأنجزت نقدا كتبته في مقدمة ديوانها (شظايا ورماد)، وفيه دعوة إلى الحداثة في اللغة والشكل الفني للشعر وإلى استبدال مرجعيات الماضي حين يكون عبئا، بمرجعيات الحاضر وعلوم العصر ومنجزاته. مثلما أنجزت نازك قيما ثقافية حداثية منبعها الاقتراب من الذات الفردية المدنية، ثمّ عبّرت عن تلك القيم بهيأة انحازت إلى ملابس عصرها المدني، والتمرّد على ثقافة الحَجْب بكل تجلياتها، ومنها الحجب البيتي وتقييد المرأة وخنق إمكاناتها.. فدرست الموسيقى وتعلّمت العزف على آلة العود، وألقت الشعر أمام الناس، واتقنت أكثر من لغة، وانفتحت على الآخر وعلى ثقافة الآخر...
ومثل هذا النفع يتحقّق حين نستذكر الدكتور علي الوردي، ونحتفى بذكراه ونبرِّز المعاني الثقافيّة لمنجزه. فهو اختار منهجا جديدا في بحث الظواهر الاجتماعية والثقافية، ونقلها من البحث على الورق إلى البحث في الواقع المعيش، فكان باحثا بين الناس يتلمّس قضاياهم بطراوة وواقعية. وسار في طريق من البحث لم يكن مأنوسا بكثرة الطارقين، ولم يكن بمنجاة من نقد المنتقدين... وبالنتيجة غاص في قضايا الشخصية العراقية والفرد العراقي، وأنجز كتابات مهمّة، من حيث نتائجها، ومن حيث ما أثارت من نقاشات حولها.والأمر لا يقتصر على نازك والوردي ولا على هذين الحقلين من دون سواهما. فحقول الثقافة والمعرفة متعدّدة، وغنى الثقافة العراقية معلوم ورموزها كثيرة.
هكذا، إذن، تبدو منافع الاستذكار جمّة، لنا ولمَنْ نستذكرهم وللثقافة نفسها. ولكن كلّ هذا بحاجة لِما يلزمُه، لتتحقق النتيجة المثلى. لأن حكم المصادفات ليس مأمونا لمَن يودّ الارتقاء، ولأنّ العشوائية لا تُنتج شيئا له قيمة. لذا تجد ثقافة المجتمعات في العصر الحديث بحاجة دائمة إلى إدارة ورؤية ستراتيجية. والواقع في هذه الأيام ثمّة جهود طيّبة تبذلها وزارة الثقافة والسياحة والآثار في هذا المجال، وكذلك اتحاد الأدباء والكتّاب في العراق؛ فقد تحققت عدّة جلسات استذكار لشخصيات ثقافيّة وأدبيّة وفكريّة، شيّدوا علامات مهمّة في تاريخ الثقافة العراقيّة.
ويبقى نجاح حلقات الاستذكار مرهونا بالنجاح في أكثر من محطّة، بدءا بانتقاء الرموز المُستذكَرين، مرورا بتوفير مستلزمات نجاح الاستذكار، وصولا إلى ما ينبغي أن يُقال فيه.
أرى أن كلّ نجاح في المحطات الثلاث مرهون بـ (الحرفية). فحين نسترشد بالحرفية المصقولة ببعد الرؤية ووضوحها ستكون معايير انتقاء الرموز صائبة. فكُثر هم الذين قدموا وأنجزوا بهذا القدر أو ذاك، ولو صار إحياء الذكرى والاحتفاء بالجملة من غير روية؛ ستفقد فعالية الاحتفاء معناها وتقل قيمتها وتضعف قدرتها الرمزية. ولو صار إحياء الذكرى خاضعا لمعايير حزبية أو جهوية؛ أيضا، ستفقد معناها الثقافي الذي نطمح أن يكون تنويريّا نافعا للمجتمع ودافعا لتقدّمه ثقافيّا ومعرفيّا.
و(الحرفية) نفسها قادرة على توجيه منظمي تلك الندوات، أيضا. ليحقق الاستذكار غاياته ويكون لائقا بمقام الرموز، من حيث انتخاب المتخصصين الأكفاء للمشاركة في الحديث، ومن حيث تهيئة المستلزمات المادية التي تساعد على النجاح. فإن لم تُستكمل الاستعدادات قد تنقلب الأمور ويقلّ النفع، وقد يكون استذكارا بدرجة إساءة.
مرّة أخرى تكون (الحرفيّة) مهمّة في التوجيه لقول ما ينبغي أن يُقال. فالاستذكار ليس حفلا غايته الثناء. طبعا، لا بأس ببعض الثناء فهذا واجب على المستذكِرِين وحق للمبدع المُستذكَر والمحتفى بذكراه، لأنَّها جلسة تعبير عن اعتراف بفضله وبأهمية منجزه. وكأنّهم بذلك يستدعونه من الموت ليكون حاضرا بينهم، ويعلنوا انتصار الحضور على الغياب. لكن الثناء وحده لا يكفي، وليس له الأثر المطلوب والقيمة المرجوّة. ولا بدّ من النظر في المنجز والحديث عنه. ولكن أيّ نوع من الحديث عن المنجز يصلح لجلسات الاحتفاء هذه؟. لا أجده مناسبا ذاك الحديث المُجتزأ عن المنجز، الذي يُركّز القول في جزئية بحثية تخصّصية صغيرة في منجز المحتفى بذكراه، لمناقشتها مناقشة علمية بحثية تفصيلية، فمثل هذا قد تتكفل بنشره مجلّة من المجلّات المتخصصة. ما الذي يناسب، إذن؟. أظن أنّ منطق الحرفية يدعو في الاستذكار والاحتفاء إلى استخلاص القيم الثقافية من منجز المحتفى بهم، واستخلاص المعاني النهائية، لتكون هاديا ومرشدا للارتقاء بالواقع. فمَنْ أبدع في حينها كانت غايته أن يقدّم للمجتمع ما ينفع، وسيكون مسرور الروح إن كان إحياء ذكره والاحتفاء به يقدّم نفعا للمجتمع وفيه فرصة للارتقاء بالثقافة والواقع.