الكتابةُ بوصفها حرفةً

ثقافة وفن
  • 17-07-2022, 08:12
+A -A

 محمد صابر عبيد
تتردد جملة أثيرة داخل فضاء الكتابة الأدبيّة أتت عليها كثيرٌ من أدبيات التوصيف والتمثيل في الثقافة العربية القديمة هي: «فلان أدركته حرفة الأدب» تعبيراً عن تحول الكتابة الأدبيّة لديه إلى حرفة أو مهنة يرتزق منها، على الرغم من أن هذا القول -في أغلب مرجعيّاته التراثيّة العربيّة- ذو طابع سلبيّ يشير إلى معنى الحرمان في هذه الحرفة الفقيرة، فهي تدرك صاحبها إدراكاً فلا يجد بعد ذلك مناصاً للتخلص منها لأنها ذات طابع سحري تتمكن ممن تدركه وتجعله أسيرها.

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
 
 ويبدو أنّ التعلّق بالكتابة أشبه باللوثة التي لا تسمح لصاحبها بفُرصةٍ تمكّنه من تركها والبحث عن حرفة أخرى، فيمكث فيها ويتعبّد في محرابها مهما قستْ عليه وأذاقته صنوف المرارة والخذلان والحاجة والفقدان، إذ لا سبيل إلى الخلاص منها وهي تأخذ بلُبّه وتستعمره وتفرض عليه قوانينها وقواعدها.
تحتشد كتب التراث العربيّ بكثير من حكايات ومرويّات هؤلاء الذين أدركتهم حرفة الأدب وماتوا فقراء إلّا من المعرفة، وغالباً ما تأتي هذه الحكايات على سرد محكيّاتها بأسلوب ساخر يحطّ كثيراً من شأن الكتابة وأحوالها، على نحو يناقض تماماً ما جاء في مدحها والثناء على صورتها في القرآن الكريم ضمن آياتٍ كُثرٍ، ومن بلاغة ما جاء على ذكره الأقدمون في هذا السياق ما ذكره الثعالبيّ في كتابه «المبهج» وهو يصف حرفة الأدب بأنّها «حُرفة» والحُرفة بضمّ الحاء تعني في معاجم اللغة «قلّة الحظّ»، بمعنى أنّ من تدركه حرفة الأدب فلينتظر قلّة الحظّ ومرارة العيش وسوء العاقبة في حياة ظنكة قاسية، حيث يقضي حياته بين الكتب فقيراً قد لا يحصل على قوت يومه أحياناً؛ ولا يفيده ما يكسبه من معرفة يضعها في كتب أو رسائل أو غيرها.
يقترن مصطلح «الحرفة» بمصطلح «الاحتراف» الذي يذهب بالحرفة إلى أقصى حدودها الممكنة، بحيث تتحوّل الحرفة في ميدان الاحتراف إلى كيان مُعتمَد يقوم على أسس وقواعد وأعراف لا يمكن اختراقها بسهولة، وعندها تكون الحرفة شاهداً وامتيازاً يحيل على دقّة العمل وكمال المعرفة والتفنّن في تطوير الإنتاج وغير ذلك، وتنتقل الصورة المهنيّة من مجال الهواية إلى مجال التخصّص الدقيق القادر على تفعيل المهارة في أعلى درجاتها، وبكفاءة مشهود لها على مستوى البراعة والاتقان والجديّة والاستمراريّة والمهنيّة لإدراك مرحلة يتسمّى فيها الحرفيّ بحرفته، على النحو الذي تكون فيه الحرفة على الصعيد الاجتماعيّ بديلاً للنسب العائليّ أو القَبَليّ؛ ولا سيّما في المجتمعات المدنيّة ضعيفة الصلة نسبيّاً بالجذر العشائريّ.
يوصف من يمتهن العمل المكتبيّ في الموروث الثقافيّ العربيّ بـ «الكُتُبيّ» نسبة إلى الكتاب، وغالباً ما يكون هذا الكُتُبيّ حرفياً في مجال صناعة الكتاب على مستوياته ومراحله المختلفة، فهو القارئ والكاتب والمسوّق والوسيط والعارف بشؤون الكتابة من ألفها إلى يائها، على نحو احترافيّ وتخصصيّ متكامل لا يخرج خارج هذه الدائرة قيد أنملة -كما يقولون-، وهنا تأخذ الحرفة شكلاً آخر أكثر سعة وانتماءً ممّن يمتهن الكتابة وهو غير كتبيّ بالمعنى التجاريّ للكلمة، على الرغم من أنّ هذه الحرفة بوصفها التجاريّ لم تكن مُربِحة؛ إنّما كان المُبتَلى بها لا يجد سبيلاً آخر للعيش غيرها لأنّه قد لا يجيد عملاً سواها، وثمة سرّ غامض فيها يلوّث المشتغل في حقلها بلوثة أشبه بالإدمان؛ فلا يستطيع منها فكاكاً مهما حاول التخلّي عنها وقتَ الضيق.
يتعلّق هذا الوضع بالمناخ المدينيّ والحضاريّ الذي تعيشه الأمّة من حيث عنايتها بالكتاب والمعرفة والعلم والثقافة، ففي العالم المتحضّر على سبيل المثال يمكن للكاتب، أيّ كاتب، يكتب رواية واحدة ناجحة ليصير فيها مليونيراً من عائدات بيع هذه الرواية فقط، في حين لا يمكن لأيّ كاتب عربيّ مهما بلغت شهرته وقيمته الإبداعيّة والمعرفيّة أن يعيش عيشة كريمة من عائدات كتبه جميعاً، حتّى نجيب محفوظ الفائز بجائزة نوبل للآداب على سبيل المثال ظلّ موظفاً ثمّ متقاعداً يعيش من راتبه، ولم تتمكّن رواياته وأعماله الأدبيّة كلّها أن تعفيه من الانتماء للوظيفة من أجل العيش بكرامة، فلا بدّ للكاتب مهما كان مهمّاً وشهيراً من وسيلةِ عملٍ ذات مردود ماديّ جيّد كي يعيش هو وأسرته لأنّ الكتابة لا توفّر له ذلك، وربّما صرّح نجيب محفوظ وغيره من كبار الكتّاب العرب بهذه الحقيقة الصادمة في مناسبات كثيرة.
وإذن، لا يمكن أن تكون الكتابة حرفة ذات طبيعة مهنيّة توفّر مردوداً ماديّاً مناسباً لصاحبها في ظلّ تخلّف كبير تعيشه مجتمعاتنا العربيّة على نحو خاصّ، ولا سيّما في وضعنا الراهن الذي يشهد إهمالاً مريعاً للكتاب وتجاهلاً لا نظير له لفعل القراءة، فضلاً على وصول التعليم في معظم الدول العربيّة إلى مستوى من التدنّي يندى له الجبين، إذ خرجت كثير منها خارج المعايير العالميّة التقليديّة لجودة التعليم؛ وخرجت معها كثير من جامعاتنا من سلّم تقويم الجامعات التي تتوفّر على الحدّ الأدنى من المعايير العلميّة والمعرفيّة المتداولة والمتعارَف عليها، على النحو الذي يكون فيه من المستحيل توقّع انتشار القراءة وازدهار صناعة الكتاب، لتبقى هذه الحرفة «حُرفة» -كما قال الثعالبي- لا تجلب لصاحبها سوى مزيد من الخسائر والفقدانات
والمصائب.