د.نازك بدير*
لعلّ أهميّة يوم عرفة تنبع من حيث رمزيّته، إنّه مناسبة يقف فيها المرء أمام ذاته، قبل أن يقف أمام ربّه، يعترف بينه وبين نفسه بأخطائه، يتصارح معها، يُفرغ كّل ما في داخله من أحمال وأثقال، ويرميها عن كاهله، ويتوب توبة صادقة، بنيّة صافية، وبقلب كلّه توجّه نحو إله واحد رحمن رحيم. ولكن هل ينتظر حلول التّاسع من ذي الحجة ليرتدي البياض، وقلبه لا يزال يتّشح سوادًا؟
هذا من جهة، ولكن ومن جهة ثانية، للتواجد في جبل عرفة فضائل كثيرة جعلها الله دروسًا لعباده، حيث يجتمع المسلمون على اختلاف جنسيّاتهم ومشاربهم وألوانهم وانتماءاتهم وأعراقهم وطوائفهم في مساحة واحدة(جبل عرفة) وهي سانحة حقيقيّة ليعود الإنسان إلى إنسانيّته الحقيقيّة، ويتعامل مع أخيه على أنّه مثله تمامًا، لا اختلاف بين شخص وآخر إلّا معيار الأخلاق والتقوى والتّفكّر. وهي فرصة للتّقارب بين المسلمين، وتذويب الخلافات في ما بينهم، ومحاولة بناء جسور تلاقٍ وتلاقح، على الرّغم من اختلاف اللغات والعادات والتّقاليد، لأن ما يجمع بين الإنسان وأخيه من أواصر محبّة وتعاون ودعم وتضحية، هي أقدر على البقاء والاستمراريّة من الفتن. فليبدأ بترويض نفسه، وأخْذها نحو منابع الخير، بعيدًا من منابت الشرّ.
اجتماع النّاس في الحج لعلّه من الدّروس الروحيّة ليس للحجيج فحسب، إنّما لمَن يريد التّطهّر في أيّ بقعة كان من العالم، فهو، وإن كان فرض عبادة، لكنّه رياضة تأمليّة روحيّة في آن متى أدرك المرء فلسفته الحقيقيّة؛ في الطّواف حركيّة دائريّة وعموديّة في الوقت ذاته، كلّما صفَت النيّة وأحسن الإنسان عمله وأخلص إلى ربّه، كلّما تكاملت هذه الحركيّة، وصارت أقرب إلى نهج حياة، فلن يتركها في المشاعر المقدّسة، إنّما ستكون سلوكّا عامًّا يمارسه في المجتمع، ولن تكون الأخلاقيّات حصرًا في مواقيت الحجّ، إنّما في الحياة العامّة، وفي كلّ زمان ومكان.
الحجّ” لمن استطاع إليه سبيلا” لكن، ومن لا يملك إلى الحجّ السّبيل، يمكنه اجتراح الطّرائق للعبادة، من خلال قول الحقّ، وخدمة النّاس، والإحسان إليهم، ومعاملتهم بالحسنى، ورفْض الفساد، ومحاسبة الفاسدين، وإرجاع الحقوق إلى أصحابها، ووضع حدِّ لانهيار الدّولة التي قد تكون من أجمل العبادات!
كاتبة لبنانيّة