ميسان- واع- شذى السوداني- عبد الحسين بريسم
يعد (دهو ربا) العيد الأكبر في الديانة المندائية، وهو يمثل لدى أبناء الطائفة عيد رأس السنة، وبحسب مفهوم المندائيين فإن هذه المناسبة تأتي من يوم بداية الخلق بقدرة الخالق وصعود ملائكة النور من الأرض لتقديم التهنئة والولاء له بهذه المناسبة التي أضحت من أكبر مناسبات المندائيين الذين يحتفلون بها كل عام عبر ممارسة طقوس معتادة.
وبهدف الاطلاع على تفاصيل هذه الفكرة وتسليط الضوء على هذه المناسبة الدينية لدى أبناء هذه الطائفة، حاورت وكالة الأنباء العراقية (واع)، خضير الزهيري وهو من أبرز مؤرخي المندائيين في محافظة ميسان، والذي أوضح قائلاً: "جاء في كتاب كتاب الاسئلة (ألف ترسر شيالة) للطائفة المندائية أن فترة بداية الخلق (عيد دهوربا) تمثل يوماً عظيماً كانت تنتظره العوالم والأجيال".
وجاء في نص آخر حول الموضوع أن "مساء يوم العيد الكبير (نوروز ربا)، والليلة التي تلته تشكل (مانا ربا كبيرا)، وهو العظيم الذي تترقبه العوالم والاجيال، وهو رأس البنيان الكنشي"، مؤكدا أن "زهلي هو آخر يوم في السنة المندائية، ومعناه يوم الاجتماع والتطهير".
وأضاف الزهيري، "يجتمع المندائيون ليتباحثوا ويتدارسوا في كل ما يخص السنة المنصرمة، ويزيدوا من ابتهالاتهم ودعواتهم إلى الخالق، ليمنحهم المغفرة ويعاهدوه بالاستمرار على نهجهم الذي رسمه لهم في العقيدة المندائية".
وواصل الزهيري أنه "لتأكيد ذلك يصطبغ المندائيون في (اليردنا برستة)، ففي هذا اليوم المبارك بالنسبة لهم، يكون أجر الصباغة يعادل 70 صباغة"، مشيرا الى أنه "جاء في كتاب (ألف ترسر شيالة) باسم الحي العظيم أن أي شخص لم يصطبغ في الكنشي وزهلي سيصبح من حصة النار، وسيضرب 60 ضربة، ومن يصطبغ في ذلك اليوم ستحسب له 70 صباغة، وتعني الصباغة اعترافا ضمني بالخطأ (الاثم)، والإصرار على محو الخطأ، وطلب غفران الخطايا، ففي كنشي وزهلي يريدك النور أن تستقبل عاما جديدا بالنقاء والطهر والنزاهة".
ولفت المؤرخ إلى أن "الصباغة خطوة لتنفيذ ما يطمح به المندائيون للعام المقبل، كما تعني التخلص من الفكر الظلامي، فالجروح اي الذنوب لاتشفى الا بـ (70) صباغة، ومن الطبيعي أن عدم الالتزام بتعاليم الدين يعني الذهاب نحو الفكر الظلامي".
وأشار إلى أن "ذلك استوعب مساحة كبيرة في الفكر والثقافة المندائية، وهذا بحد ذاته جرح أو ضربة خيمت على الفكر النوراني".
وقال الزهيري، إن "ثمة امور واجبة يقوم بها المندائيون خلال كنشي وزهلي ومنها عمل طريانة من الطين بـ (7) خانات محددة بعدد أفراد الأسرة، وتوضع فيها أنواعا من الفاكهة المتوفرة في البيت مع الملح في المنتصف مع قدح ماء، ووضع شمعة تضيء في الليل لتذكر المندائيين بخالق الكون ومبدع مكوناته ورافع سماواته ومدبر أموره، كما يملأ المندائيون الأواني والقدور بالماء الكافي مدة (36) ساعة، مع عدم استخدام مصادر مياه الإسالة داخل البيوت، وغلق (الحنفيات) تماماً حتى لا تفتح سهواً، فضلا عن خزن الطعام في يوم كنشي وزهلي بما يكفي لهذه المدة، فيما تعزل المرأة الوالدة التي لم تنه فترة النفاس المحددة بـ (30) يوماً، والمرأة الحائض، ويكون طعامها وشرابها بمفردها".
وتابع المؤرخ الزهيري حديثه عن طقوس الصابئة بالقول إن "المندائيين يعمدون الى (الطماشة) اي الارتماس بإدخال الرأس في الماء قبل غروب الشمس لكنشي وزهلي والدخول الى البيوت وغلق الأبواب وإشعال البخور والدعاء بالصحة والسلامة لأفراد الأسرة ولجميع المندائيين وهو مايعرف (بالكرصة) اي الاعتكاف".
ونوه بأنه بحسب المندائيين "في هذا اليوم تصعد ملائكة النور الموجودون في الأرض لتقديم التهنئة والولاء (لماناريا) بمناسبة (خلق نفسه بنفسه بقدره الخالق)، فتغادر الأرواح التورائية الموكلة لحماية الأنفس البشرية من تأثير الأرواح الظلامية من تلتحق بهم بشرورها، والأرواح الموكلة لحراسة الماء الحي في هذه الدنيا وهي الأخرى تغادر أيضاً إلى بارئها لتعترف له وتشهد بأنها قد أنجزت بإتقان كل ما أرسلت لأجله في هذا العام".
وتابع "وأيضاً يتجدد العهد بالاستمرارعلى هذا النهج وانجاز كافة المهام الجديدة للعام الآتي وتستمر مدة الاعتكاف (36) ساعة تبدأ من الساعة السادسة مساءً وتنتهي في السادسة صباحاً، كما يغلق باب أباثر ويرفع الملكان (شلمي وندبي) حراستهم عن الماء وسكان مشوني كشطا وعلى رأسهم (أدم كسيا) وحارسهم الروحي (شيشلام ربه) ويرتفعون جميعاً إلى عالم النور اللانهائي وتستغرق هذه الرحلة (12) ساعة للعروج، حيث يصلون إلى غايتهم فجر يوم رأس السنة الجديدة، ويمكثون هناك متأملين خاشعين للكمال طيلة يوم رأس السنة، ثم يعودون إلى أماكنهم الأولى فيصلونها في نهاية الليلة التالية".
ويؤكد الزهيري أن "من وجهة نظر المندائية فإن العالم يظل دون حماية وتظل قوة الشر والموت طريقه غير مكبوحة الجماح، وحتى مياه الأنهار والينابيع تصبح ذات خطر يجب عدم مسها أو الاقتراب منها بهذه المناسبة"، مبينا أن "المخطوطات المندائية أشارت لهذه المناسبة في متونها، ومنها مخطوطة (دراشا اد يهيا) التي تناولتها في قصة (شوم بر نو) سام بن نوح مع الأرواح الظلامية، حينما أحاقت به قائلة: لقد غادرت كل الأرواح التي تحرس هذه الدنيا وحتى شلماي وندباي حارسي الماء الحي هما الآخران غادرا أيضاً، فالعالم أصبح بلا مولى، وها أنت الآن وقعت في قبضتنا وتحت سطوتنا، فما عليك إلا الانضمام الى مجموعتنا، وحالما سمع سام ذلك ذعر وأصابه الإحباط ولم يتمالك نفسه فانتحب باكياً وغرقت عيناه بالدموع، فأقبل إليه رسول الحي العظيم قائلاً له: (لماذا بكيت يا سام، ألم تعرف بعد إننا نعرف عنك كل شيء ولن نتركك مطلقاً، وسوف نأتي إليك حينما تطلبنا، ونكون قربك برمشة عين، فنحن موجودون في أعماقك، فلا تبتئس طالما انك باقٍ على العهد في طريق الحق والإيمان).
في هذه الفترة، يقول المؤرخ: "على المندائيين البقاء في منازلهم، وقد جاء في كتاب (الف ترسر شيالة) ما نصه: "(باسم الحي العظيم كل شخص يحافظ على نفسه خلال 36 ساعة، سوف يصبح من حصتي أنا أبو الآثريين ملكا منداد هيي مبارك اسمه)".
ويتابع، "جاء في كتاب (الف ترسر شيالة) (باسم الحي العظيم، كل من يضع يده في المياه الجارية في يوم رأس السنة سيكون من حصة النار، ويجب عليه أن يصطبغ 50 مرة).
ويؤكد المؤرخ، "في هذا اليوم من نوروز، وبحسب الديانة المندائية، ربا أتت (الروها الخسيرة والناقصة)، وبعد أن استغلت خلو الأرض المسكونة من قوى النور، فأساءت إلى اليردنا بعد أن تشبهت بها، وأمرضتها، فالذي يشرب ماء من اليردنا أثناء النهار قبل تدنيسها بإنائه الخاص لا يمسه أي سوء، أما الذي يشرب بعد تدنيسها من قبل القوى الظلامية أو يغمس أصبعه في اليردنا خلال 36 ساعة ابتداء من مساء يوم كنشي وزهلي يرتكب خطيئة ويُلعن بلعنة شيشلام ربا وتفسد كسوته، أي تقمصتها الروها اليردنا وتشبهت بها في الوقت الذي تجردت اليردنا من قوى أسرار النور فاتحدت الروها مع اليردنا وبثت أسرار الظلمة وأمرضتها فباتت اليردنا غير صالحة، ومَن يتعامل معها فهو يتعامل مع قوى أسرار الظلام، أي أنه ناصر الظلام ضد النور، وهو بذلك يجني على نفسه الجرم فيُلعن بلعنة شيشلام ربّا، لذلك فإن هناك مجموعة من الأمور على المندائي أن يلتزم بها في يوم الكرصة حفاظاً على طهارته ونظافته في هذا اليوم المقدس بالنسبة للمندائيين".
وأشار المؤرخ الى المحرمات التي يبتعد عنها المندائيون في يوم الاعتكاف (الكرصة)، وهي: عدم الاقتراب من الماء الجاري خارج البيوت، وعدم لمس المزروعات والنباتات خارج البيوت، وعدم لمس الحائض والنفساء، وتجنب الأدوات الجارحة وحلاقة الذقن أثناء الكرصة، تجنباً لحدوث نزف الدم الذي يعتبر تميزا طاهرا في هذه الأيام، وعدم الخروج من الدار لأي سبب كان، وعدم لمس أي ماء جار أو نهر أو خندق أو حيوان أو أشجار وحتى الدواجن داخل البيت، والامتناع نهائياً من التقرب لفراش الزوجية ليس في هذه المناسبة وحسب، بل في كل المناسبات الدينية الأربع، اضافة الى أيام الأحد والخميس ورأس الشهر"، لافتا الى أنه "في حالة وفاة أحد، يطمش (يرتمس بالماء) ويلبس القماشي (الملابس الدينية) ويبقى في البيت لحين انتهاء (36) ساعة ثم بعدها تجرى له مراسيم الدفن، وفي حالة حدوث نجاسة كالحيض المفاجئ أو لمس حيوان أو نبات أو قدوم شخص غير طاهر من خارج الدار في يوم الكرصة أو حدوث جرح وخروج الدم، يطمس هذا الشخص بالماء مع بقائه معزولاً، وإذا استطاع الصوم عن الأكل والشرب لحين انتهاء (36) ساعة يكون أفضل، وهذا يشمل كل شخص مندائي".
ويتابع، "كما يجوز البراخة والرشامة في يوم الكرصة، وذلك بصب الماء من قبل شخص آخر بإناء معدني نظيف على أن يكون من الماء المخزون للكرصة".
ويسرد المؤرخ الزهيري حلة الملائكة النورانيين خلال 36 ساعة بحسب أصحاب هذه الديانة قائلاً: "بما أن ملائكة النور الموجودين على الأرض يصعدون لتقديم التهنئة والولاء لـ(مانا ربا) الذي خلق نفسه بنفسه في هذه المناسبة، فإن الأرض ستبقى خالية بدونهم، وأن رحلتهم هذه تستغرق (12) ساعة صعوداً و(12) ساعة نزولاً، فيما يمكثون عنده (12) ساعة، وتبدأ هذه المناسبة في الساعة السادسة من مساء يوم كنشي وزهلي، أي أن ذلك هو وقت صعود ملائكة النور، وليس عند نجمة المساء كما يعتقد البعض، والسبب في ذلك، هو أن رأس السنة يصادف في شهر شباط اي ظهور التقديم المندائي لأول مرة في بلاد الرافدين، كان في فصل الشتاء والذي تظهر فيه هذه النجمة في حدود الساعة السادسة مساءً، ومن ناحية أخرى فإن اليوم المندائي يبدأ من الساعة السادسة صباحاً لنفس السبب المذكور، إضافة إلى أن التقويم المندائي يقل بمقدار ربع يوم في السنة تقريباً عن السنة الميلادية، لأن طول السنة المندائية هو (365) يوما، وإذا لم يكن الأمر كذلك، فماذا سيقول المندائيون الذين يعيشون في أوربا عن ظهور النجمة في الساعة الحادية عشرة مساءً وشروق الشمس الساعة الرابعة صباحاً، أي (29) ساعة في شهر تموز الشهر الذي يقع فيه العيد الكبير حالياً، وهذا مخالف للنص الديني الذي يحدد الكرصة بـ (36) ساعة أي يوم ونصف اليوم".
ويؤكد، "ينتهي الجزء الأول من هذه المناسبة في الساعة السادسة صباحاً من يوم رأس السنة، حيث يجتمع الملائكة بـ (مانا ربا) ويقرر مصير المندائيين للسنة القادمة، لذلك فإن رجال الدين يقومون بـ (الكشف) في ذلك الوقت من صباح يوم العيد، اعتماداً على كتاب (اسفر ملوسة) الذي يعكس حسب اعتقادهم قرار الرب حول طالع حظ المندائيين للسنة القادمة، أما الجزء الثاني وهو مكوث الملائكة بقرب (مانا ربا) ينتهي في الساعة السادسة في عصر يوم السنة، فيما ينتهي الجزء الثالث وهو عودة الملائكة إلى الأرض، في الساعة السادسة من صباح اليوم الثاني للسنة بوصول الملائكة إلى الأرض في الساعة السادسة من صباح اليوم الثاني للسنة، وهو الوقت الذي يبدأ فيه المندائيون بالخروج لتهنئة بعضهم البعض".