زهير الجبوري
تعدّ تجربة النحّات محمود عجمي من التجارب الفنيّة التي تشكّل انتباهة كبيرة في تحديد الجذر التاريخي عبر مراحل فنيّة مرَّ من خلالها الفن العراقي وشكّل هويته التشكيليَّة، ولعل هذا الفنان أخذ على عاتقه قراءة الأشكال المثيولوجية قراءة معاصرة انطوت على تناوله الثيمات الجماليَّة المتماهية مع مرحلة العصر الحالي، وانطلاقا من مفهوم (أنَّ الأسطورة هي القصّة المقدّسة) التي أشار إليها بعض الباحثين في علم الجمال المثيولوجي، فقد أفاضت هذه العبارة أبعادا دلاليَّة لوقائع سياسيَّة واجتماعيَّة وثقافيَّة، غير أنَّ محمود عجمي أعاد تركيب شكل المنحوتات التي لها أثر علاماتي قديم كرأس الثور، وجسد المرأة والشكل التركيبي لرأس الثور والجسد الأنثوي، وغيرها من الأشكال الأخرى، وكانت عنده ابتكارات استلّها من اطلاعه وعمق مخيلته لتكون مشروعا متجدّداً عنده، فضلاً عن تخطيطاته التي أخذت مشروعاً مكملاً لمنحوتاته (من الحيث المضمون)، ولعلّ هذا الإلحاح الجمالي الذي أصرَّ على المضي فيه، أخذ منحى تفرُّديَّاً غاية الدقة، حيث العمق الدلالي لرسم الأشكال أو نحتها ولّد ابتكارات طبّقت في ثيمات غير مألوفة، كالحصى ـ مثلا ـ كانت لديه اشتغالات دقيقة وحساسة ملفتة للنظر، أصبحت مشروعاً خالصاً قدمه في معرض شخصي بعنوان (ترنيمة الحصى)، ممّا يؤكد تنوعه في أساليب الرسم والنحت معاً..
ما استعمله عجمي في بعض الثيمات في منحوتاته (عظام الحيوانات)، أعطت له مساحة من الوعي والابتكار، من خلال التركيبات الملفتة للنظر، وهنا أعني ما أنجزه واشتغل عليه (وجه الثور) كأنموذج، ولعلها البديل الأكثر ملائمة لأدوات النحت المعروفة والمألوفة، وليس غريباً عليه حين أشتغل على (الكولاج) وكانت تجربة تفرديَّة واضحة أخذت تعبّر عن بصمة كتبت باسمه؛ لذا لا بدَّ من متابعة وملاحقة منحوتاته والنظر إليها بعين مغايرة، لأنّه باختصار يمازج بين ابتكار الشكل وإنشائه، وهذا يعود لسعة مخيلته ومساحة اطلاعه وثقافته في هذا المجال، بخاصة هو أستاذ جامعي (تدريسي في جامعة بابل/ الفنون الجميلة)، الأمر الذي يجعله في دوامة الاطلاع والكشف عن الجديد والمغاير.
ومن صميم اشتغالاته وأساليبه المتنوّعة في النحت، يثير انتباهنا لدقائق الأشياء المحيطة به، كـ (رأس أركيلة)، القطعة الخشبيّة البسيطة، سرعان ما تتحول إلى منحوتة لها جماليَّة خاصة لجسد أنثوي، أو إناء خشبي يرسم على محيطه الدائري جسد ثور بشكله الأسطوري، وغيرها من الاشتغالات التي تجعل منه فناناً يمارس الأدوات كافة في النحت، وهذه الميزة نجدها في اشتغالاته على الورق أيضاً، خاصة التخطيطيَّة منها، ما جعلته كثير التمرّس في موضوعته هذه سواء في القطعة الخشبيّة أو مساحات الجدران أو الورق.
ومن اشتغالاته النحتيّة المهمّة، تجربته في الفن الرقمي النحتي ـ كما يسميها ـ وهي تتناول الشكل التجريدي للجسد أو الرأس الأسطوري الذي اعتاد عليه في اشتغالاته، وأعتقد أنَّ هذه التجربة اشتغلت في مشروع (سمبازيوم) في بابل مع مجموعة من الفنانين المعروفين، ولها ارتفاع بلغ أكثر من مترين ونص أو ثلاثة أمتار، وقد أخذ هذا المشروع مكانه في النصب في مكان معين في مدينة الحلة، وأسماه (الطبيعة من خالقها)، لذا تعد هذه واحدة من أهم التجارب التي أعطت تميّزاً وتفرّداً له، وهي إعادة لقراءة الجسد بشكل فلسفي دقيق، لما تحمله من شفرات عميقة في المعنى المصاغ، ولا أدخل في تقنية البناء والتشكيل، لأنَّ هناك أبعاداً ومقاديرَ محسوبة من النسب بالطين والعجائن الأخرى لأنّها من أدوات الفنان ومن آلياته التي يعرف أسرارها هو بنفسه.
يؤمن عجمي (أنَّ فَن النحت هو تشييد للأفكار) وهو التعريف المثالي الذي عرف عليه، لكنه أفاض لنفسه أن يجترح ويضيف اسقاطاته الجماليَّة وابتكاراته الخاصة، حيث الأدوات غير المألوفة في الثيمات المهملة كالحجارة والحصى وعظام الحيوانات ـ كما أشرنا ـ أصبحت بين يديه أشكالاً فنيَّة لها جماليَّة خاصة، وما يثيرنا في كل تجاربه أنّه في تواصل مستمر وابتكارات جديدة، وهذا ما يجعلنا ننتظر ما هو
جديد.