هدية حسين
«لا تستعطفه شيئاً، طالبه بحقنا، بما كان مجبراً على تقديمه إليّ ولم يعطني إياه، خذ منه ثمن النسيان الذي خلفنا فيه يا بني»، كانت هذه وصية الأم لابنها أثناء احتضارها، أما بعد موتها فكان لا بد للابن أن يسافر الى كومالا ليأخذ الحق من أبيه المدعو بيدرو بارّامو، ومن تلك الرحلة تبدأ المتاهة، متاهة الشخصيات، متاهة الأمكنة، متاهة الزمن، ومتاهة القارئ الذي سيحتاج الى كثير من التركيز وهو يقرأ رواية (بيدرو بارّامو) لمؤلفها المكسيكي خوان رولفو 1917 - 1986، الذي يوصف بأنه أبو الواقعيّة السحرية في أدب أميركا اللاتينية، ترجم الرواية عن الإسبانيّة صالح علماني، وصدرت عن دار أثر سنة 2013، الدمام.
لم يكن الوصول الى كومالا سهلاً، عليه أن يقطع طريقاً صاعداً وطويلاً على أحد البغال، كما أنه لا يعرف المدينة إلّا من خلال ذكريات أمه، وقبل ذلك لم تكن ثمة صلة بينه وبين أبيه فهو لم يره قط،، ولا بدّ من الثرثرة مع البغّال لتزجية الوقت، ومن خلال هذا البغّال سيكتشف أن بيدرو بارّامو يمتلك كل تلك الأرض، وأن جميع أولاد هذه المدينة هم أولاده بسبب (سرير عابر) كما قال له البغّال، وأن السيدة دونيا يمكنها أن تساعده لمعرفة الكثير عن المدينة وعن بيدرو، إلّا أن الصدمة جاءت على لسان دونيا بأن بيدرو مات منذ سنوات، إذن كيف يسترد الحق الذي تطالب به أمّه؟ ليس هذا ما سيشغل القارئ بقدر تلك الأحداث الغريبة التي تقع في المدينة والمدن التي تجاورها، لقد دخل الابن حقل ألغام لا يعرف كيف يخرج منه، لقد تبلبل، بين أحياء سيتضح أنهم موتى، وأموات يتحاورون كما لو أنهم ما يزالون يعيشون في الحياة.
خوان رولفو يُدخل القارئ في متاهة لا حدّ لها، ويتلاعب بالزمن فينتقل القارئ من الحاضر الى الماضي من دون إشارة استدلال، ويلتقي بشخصيات غريبة عجيبة، حتى بيت دونيا غريب، ليس فيه فراغات بل ممتلئ بحزم الأثاث والأمتعة التي يضعها بعضهم لدى دونيا على سبيل الأمانة وعلى أمل استردادها فيما بعد، فيرحلون ولا يعود منهم إلّا القليل، أما الأغرب فهو الذي حدث من حوار بين الابن ودونيا عندما وصلها فقادته الى غرفة ليستريح فيها، وأثناء ذلك قالت له: أنت ابن دولوريتاس، وهو اسم أمّه، وعندما سألها كيف عرفت أجابته بأن أمه أخبرتها قبل ساعة من مجيئه، كيف تخبرها بذلك وقد ماتت منذ فترة طويلة؟
من هنا سيكون كل شيء مريباً وغير مفهوم، وما على القارئ إلّا أن يدخل هذه العوالم التي ستمسك به، وكلما قرأ شيئاً وظن أنه واقعي سيكتشف زيف واقعيته، أو أن الشخصيات تُخبر عن أمور واقعية لكن الشخصيات غير واقعية، حتى الوهم له رصيد في حياة الناس، إنّهم يتشبّثون به حتى آخر يوم من مماتهم، فمثلاً، هناك شخصية امرأة تتوهم أن لديها طفلاً فقدته وعليها أن تبحث عنه، إنّها تعيش على حلم الوصول إلى السماء لترى ابنها، إلّا أنّها تدرك في وقت متأخّر من عمرها بأنّها لم تكن أماً في يوم من الأيام، المفاجئ في هذه الحكاية، أن الأم ميتة وتسرد حكايتها على جارها الراقد في القبر الذي يجاورها.
تعود به دونيا الى طفولته، يتذكرها بقليل من الصور التي علقت في رأسه، ويستعيد أمه من خلالها حتى ليكاد يسمع صوتها وصوت جدته التي تطلب منه ذات يوم أن يذهب الى دونيا ليستدين منها مبلغاً من المال لكي تشتري الجدة طاحونة جديدة، وها هو الآن أمام دونيا التي دلقت كل ذكرياتها مع أمه وجدته بحكايات لا يعرف الابن مدى صحتها، وتتداخل أيضاً حكايات بقية الشخصيات وتتشابك مكونة غابة مترامية ليس لها حدود واضحة، ويصعب الخروج منها، فدونيا تمتلك حاسة سادسة منحها الله لها، لكنها تشك أحياناً ببعضها وتعزوها للأوهام، فأي الحكايات حقيقيّة وأيها وهميّة في زخم الأحداث التي وقعت أو تقع في كومالا مدينة الخطايا كما يسميها الكهنة؟ وهكذا بين الحقائق والأوهام يمشي القارئ على خيط رفيع لا يكاد يُرى، مع استمرار تداخل الحكايات وتشابكها في أزمنة مختلة الترتيب، وشخصيات مأزومة غادرت الحياة على الأغلب لتبقى مشدودة إليها تتحدث عن نفسها كما لو أنها ماتزال تعيش بين الأحياء، وسيكون عالم الموت هو السائد في هذه الرواية، عالم لا يقوم على التكهنات وإنما على ركائز حياتية، كأن ما بعد الموت هو الأساس مادام أبدياً بينما الحياة حفنة سنين ستنتهي ذات يوم، وكما لو أن الأموات عادوا ليملئوا الفراغ الذي تعيشه الشخصيات بما سيكون وليس بما كان، فالأم تبعث صوتها الى صديقتها دونيا لتخبر ابنها بخطوات يجب عليه اتخاذها في بعض القضايا، والأخت الميتة تقف الى جانب أخيها في القداس المُقام للموتى في أحد الكنائس، ولكن الأمر يختلط على الابن فهل ما يراه حقيقة أم وهما من الأوهام في هذه المدينة التي تبدو مهجورة وممتلئة بالأصداء، أصداء الأحياء والموتى، حتى بيدرو الأب يعود، وقد يعود من خلال الحكايات، وربما من خلال خيوط الوهم المهيمن على كثير من الشخصيات، فهل هؤلاء الناس الذين يراهم الابن شخصيات حقيقية أم مجرد أشباح تواصل جولاتها في المدينة؟
هذه هي كومالا، المدينة ذات الشوارع الوعرة المتشابكة مثل حكاياتها، مدينة الأحياء الذين ينزوون في بيوتهم تاركين للأرواح أن تهيم في شوارعها، ومدينة الخطايا التي لا تغتفر كما يقول الكهنة ومن ثمّ لا يمنحون للمعترف بخطاياه صك الغفران، بينما هم، أي الكهنة، يستمتعون باعترافات النساء، ويكونون أسعد عندما يخبرونهن بأن أرواحهن لن ترى الجنة أبداً.. وسط كل ما يحدث أين يمكن للابن أن يجد الحقيقة الضائعة وأملاك الأب، وصورته التي تتغير بين الناس من رجل شرير وفاحش كما يراه بعضهم، ورجل طيب كما يراه البعض الآخر؟ روية (بيدرو بارّامو) رواية الأسئلة التي لا تجد لها جواباً، رواية الأموات قبل أن تكون رواية الأحياء، ورواية اللامعقول العجيب والغريب، والممكن والمستحيل.