ياسين طه حافظ
أتحدث هنا عن مسألة محددة كما أعرفها أنا، وكما واجهتها أو واجهها غيري. ومن الصعب، أو الخطأ أن نراها في حالة واحدة من الثبات من حيث فهمها وتقبّلها، فهي تختلف من شاعر إلى آخر، ليس على مستوى الشعر فحسب فهو ليس وحده -أي الشعر- من يقرّر. فثمة الفكر السياسي أيضاً ومضامين القصائد وانتماء الشاعر فضلا عن حضوره الاجتماعي، والمسألة هي، أن الشعر صار غير مرحب به كثيراً. أو أنه أكثر مما تحتاج له الصفحات الثقافيّة ومحرّر المجلة أو دار النشر.
فالمحرّر يتطلع إلى دراسة جديدة، إلى مقالة في الفكر أو اللغة أو في تاريخ أو نظرية الأدب. لماذا؟، لأنَّ هذه الموضوعات ترفع مستوى المجلة وترضي قرّاءها بأفكار ومرجعيات جديدة. القصائد كثيرة أكثر ممّا تحتاج له المجلة أو الصفحة الثقافيَّة وثمّة استدراك هنا، استدراك مهم جداً، فالقصائد كثيرة عدداً ولكنها قليلة، وقليلة جداً نوعاً
مستوى.
وهي لا تجد ترحيباً، إذ تشكو دور النشر من عتب الشعراء على عدم نشر دواوينهم - التي لا تباع- فدور النشر ليست فقط لا تربح ولكنها تخسر في طباعتها. وفي المعارض تعود الكتب كما هي إلّا بضع نسخ. فصارت لدور النشر دروسٌ وخبرة، إذ لا تحمل معها لأيّ معرض للكتاب غير بضع نسخ، وحتى هذه النسخ قد
لا تباع!.
فليست المسألة سوء (توزيع) كما يشيع الشعراء حينما يسوّغون أسباب البوار. المسألة بوضوح وبصدق كافٍ: أن الشعر قليل المبيعات وأفضل الأسماء تتراكم كتبهم الشعريّة في مخازن دور النشر ولا تجد من ينظر لها. ومن المنطقي أنّه لا أحد عاقل في العالم يريد أن يخسـر، فينشر كتاباً لا أحد يشتريه أو لا يستعيد ناشره –على الأقلّ- كلفة طبعه وخزنه ونقله.
ليست دور النشر هي التي تُقصي الشعر عن منشوراتها، فالشعر هو من أقصى نفسه ولم يعد يشكل حاجة تثير اهتمام أحد، ربّما يكون حاجة كمالية ولكن ليس إلى حدّ الشراء!.
ولكن لنعترف أنَّ الشعر أو بعضه في القاعات، بخير، ولذلك سببان، الأوّل: أنّ ما يحظى بالقبول منه هو ذلك الذي يتبنى الاحتجاج الاجتماعي، والتعبير عن عيوب المجتمع وعيوب الحكم، أي عن موقف الناس من حكوماتهم أو من القوى المتسلطة عليهم أو من حرمانهم. وهو هجاء اجتماعي وهجاء سياسي قبل أن يكون فنّا. فإذا جمع الفن والقضية، فلنا قصيدة نحترمها موقفا وعملاً شعرياً، وإلاّ فإن فضح العيوب والرداءة عمل يستحق التصفيق، لأنّه بعض من النضال الوطني، ولشعرائه الاحترام.
والسبب الثاني لعافية بعض شعر القاعات، إن المجتمع ما يزال حضاريا في المستوى الشفاهي، مستوى الإلقاء والسماع لا مستوی القراءة والتأمّل. فقصائد هذا النمط المتقدم أولا هي قليلة ومستواها الفني متميز جدا وثانيا أن القاعات تحمل ذائقة التجمع والحفل أو التظاهر.
الاعتماد على النخبة في مساحة المبيعات، اعتماد غير دقيق وعمليا هو غير صحيح، فالنخب دائماً قليلة العدد والمبيعات تحتاج إلى سوق، إلى جمهرة تشتري وتشتري من دون توقف.. والمهتمون بالمطبوع الشعري قلّة وقليل من هذه القلّة يشترون وبعض آخر منهم هواة.
بعض دور النشر تتقاضى عمّا تطبعه من شعر، إما من المؤلف مباشرة أو من جهات داعمة. ويمكن استثناء الأشعار المدرسيَّة أو المنهجيَّة. فوراء هذه حاجة لطلبة أقسام الأدب وغالباً ما تكون هذه كتب مختارات شعريَّة. ولأنّ الكليات متعدّدة وأقسام الأدب حاضرة فيها، يتوافر عندئذ شرط النشر إذ توافر شرط المبيع، وهنا تحول الكتاب إلى حاجة مطلوبة، أي أحد مستلزمات
لدرس.
ماذا يفيدنا هذا الكشف في فهم الإشكال القائم بين الشعر والنشر؟، هو يوصلنا إلى ما لا نستطيع الحياد عنه أو تجاهله، إنَّ الناشر يجب أن يربح وهذا من حقّه فثمّة كلفة طباعة وورق وعمّال ونقل وخزن وهو ليس مؤسسة خيريَّة. وأن يربح يعني أن يستمر على العمل وأن يربح يعني يستطيع أن يطوّر عمله ويستمر في النشر وإفادة الناس عملاً وفكراً وأدباً.
أما أن يضحي بجزء من ربحه صدقةً لشاعر لا أحد يشتري كتبه وتبقى مركونة في المخازن، فهذا ما ليس لنا حقّ فيه، هذا منطق غير مقبول في الحياة العملية. قد نعبث ولكن ليس في السوق!
اعتدنا، بعد ثورة 1958، هنا في العراق أو في مصر وسوريا، ثم تكرّر الأمر- وحتى اليوم- في دول الخليج تقليداً لما في الدول الاشتراكية أن الدولة هي التي تنشر الكتب والمجلات وتقيم معارض الكتاب والاحتفاءات بالكتاب والمشاهير. وهذه حسنة ولكنّها ليست بلا ثمن. ففضلاً عمّا نعرفه من شروط النشر الرسمي، تكمن إلى جانب مزاياه مصادرة المختلف المتمرّد والتأكيد فقط على الجوانب تريدها الدولة. لا هِبَة رسميَّة من دون مصادرة بعض الحرية أو تأكيد رضا عن الدولة وولاء لها الكتب المحايدة تمرّ بسلام وتنجو من مقتضيات شروط
النشر.
وما يهمنا هنا أنَّ الدولة غير دار النشر الخاصة، فدور النشر الرسميَّة تعتمد على مخصّصات من ميزانية الدولة أما الخاصة فيجب أن تستعيد كلفها ومع الكلف نسبة ربح لتعيش ويعيش العاملون فيها ولديمومة العمل. لذا يبدو الطلب من دار النشر أن تضحي، طلب غير واقعي، وطلب لا يدلّ على حصافة
كافية.
وما دمنا وصلنا إلى نقطة الحسـاب وإلى تفهم وإدراك الضرورات التي تحكم العمل الخاص، فيجب ألّا نغفل حقيقة أن عدداً من دور النشر، العربيّة وغير العربيّة، قد تكسب مردوداً عالياً، أجراً لا يسمى أجراً، من مراكز ثقافيّة أو سياسيّة، من دول أخرى. ويتضح هذا أكثر في ترجمة بعض الكتب ونشرها، وليس ذلك سرّاً، فبعضها يقول: تمّ طبع هذا الكتاب بالتعاون مع أو بمساعدة القسم الثقافي في هذه السفارة أو دار النشر الأجنبيّة، ويذكر اسمها واضحاً. مهما اختلفت مصادر الاسهام، كلها تعني أن لا نشر مجاناً ولا نشر لما لا يُباع (إلّا بِعوض) ولا نشر لسواد عيون
الثقافة!