أسعد الأسدي
يصبح السؤال عن الهوية مهماً، حين تمرّ العمارة في حالات الأزمة، فتجدها منشغلة في مراجعة أسئلتها الجوهرية المؤسسة للفكر الناظم لنشاطها الإبداعي، وهو ما يمكن الوقوف عليه حين يطرح السؤال حاضراً في مواجهة العولمة، كما طرح بوضوح في مواجهة عمارة الحداثة، وقت ذهبت في انعتاقها عن التقاليد، واختيارها لغة معمارية جديدة، واصلت التجريد، والاختزال، والشيوع، والتكرار المتحرر من الموجهات المكانيَّة والثقافيَّة، حد بلوغ ما سميّ بالعمارة الدوليَّة.
وهو أمر أشعل تهمة غياب الانتماء في مواجهة العمارة الحديثة، واقتراح بعض النقاد العودة إلى طرز العمارة الإقليمية، بوصفها منفذاً للخروج من أزمة لا انتماء نص العمارة الحديث. وفي حال معاينة عمارتنا الحديثة، يمكن ملاحظة كيف امتلك المعماريون العراقيون شجاعة وفطنة، أثمرت عن صنع عمارة محلية ذات هوية وانتماء، على الضد من توجهات العمارة العالميَّة، الذاهبة نحو الطراز الدولي غير المتعلق بمكان. وكان في نتاجهم توصلات ناجحة، مثلت أحد براهين السعيّ إلى نص معماري ينتمي لحداثتنا المنتظمة حول مقولة النهضة، فقد كانت حداثتنا حداثة نهضة، الأمر الذي قادها إلى التواصل مع التراث وتاريخ المكان، بدافع إعلان شخصيتها الثقافيّة، والإسهام في عمارة ذات انتماء، كما في تجارب محمد مكيَّة، ورفعة الجادرجي، وقحطان عوني، وآخرين. وقد كان الذهاب إلى المحلية والإقليمية خياراً حضارياً وثقافياً، يستعين بتراث المكان وثقافته، كي يتحصّن من الضياع والتيه في تماثل عالم الحداثة. ويكشف هذا الفهم، كيف أن الخيار المعماري لم يكن فنياً أسلوبياً وحسب، ولكنه كان خياراً يصب في الدفاع عن الهوية الثقافيَّة وتأكيدها في مضامين تتعلق بخصوصيتها، وممكناتها.
أثمر هذا التوجه عمارة عراقيّة حداثويّة تتواصل مع تراثها وتاريخها. وفي الحاضر، وفي ظل طوفان المد العولمي، تواصل مقولة الهوية فاعليتها ولزومها، في ضرورة أن يكون الإبداع متعلقاً بثقافة المجتمع، معبراً عن هويته. وقد تعوزنا انتباهة كافية، كي نواجه المد العولمي وطراز العمارة غير المنتمية، كي نؤكد قدرة ثقافتنا على إنتاج ما يميزها، ويمكنها من الخطر الذي يتهدد هويتها، في ظهور أبنية تمرر تطاولاً في ما تقدمه من مقترح جمال غريب عن عمارة المدينة، يمكن قبوله بوصفه استعادة وتذكراً لواقعة تاريخيّة تخص طرازاً عالميّاً، لا أن يدعو إلى تبنيه وتوظيفه وتكراره، كما يقع في تجارب كثيرة.
ويمكن التذكير، في أن جمال السطح المعماري لا يكون في تحوله إلى سطح زخرفي، يقدم أشكالاً وعناصر ومفردات تنتمي إلى طرز معماريّة غريبة، ولكن يكون جمال العمارة في أن يتلقى المبنى ما حوله، ويقدم له تأويلاً، ويقدم فيه قولاً، برهان إحساس المبنى بالمكان الذي يقع فيه. لا أن يمتلك شكلاً لا انتماء له مع ما حوله. وقد يكون في غياب أنموذج عمارة محلية معاصرة معبرة عن هوية المدينة، بعض ما يتسبب في غزو احتمالات غريبة، وبعيدة، ليس لها جذر في تاريخ المدينة. وعلى الرغم ممَّا قدمته الحداثة في العراق، من تجارب متميزة وناجحة في عمارة ذات هوية، فقد تناسى كثير ممن جاء بعدها أن يتواصل مع تلك التجارب، ويؤكد طروحاتها وتوصلاتها، ربما بسبب ضمور الوعي بقيمتها، أو بسبب ما أثمره التواصل العولمي مع نتاج العمارة العالمية من سعي البعض إلى محاكاة تلك النتاجات، في أشكالها ومواد إنشائها، منبهراً ببعض نماذجها. وقد يكون في ترويج خطاب العولمة لعمارة غير متعلقة بمكان، ما أباح نتاجات البعض التي غفلت عن مقولة الهوية في لغة عمارتها. وعلى الرغم من ذلك، ليس يكفي التعويل على التجارب الفردية في العناية بعمارة ذات هوية، تكون ميدان رهان ذا أمل كبير، ولكن يمكن أن نثق بتشريعات وقوانين تنظم الممارسة المعمارية، وتقيم علاقتها مع طبيعة المدينة، وتراثها، وهويتها. ويمكن الوقوف على فعل تلك التشريعات المرجوة، في نتائج سياسات عمران العديد من المدن التي تعي أهمية تراثها، وتحرص على التواصل معه. ولذلك يكون مهماً في البدء، أن ننحاز إلى العناية بالتراث المعماري، والحفاظ على بقيته، والعمل على استثمارها في توظيفات جديدة، تعيد تلك النماذج إلى الحياة، وتشبكها في أفعال سكان المدينة.
وهو أمر سوف يشيع القيمة الممنوحة لتراث عمارة المدينة، ويجعله درساً للتعلم، والمحاكاة، والتأثير في بناء المعرفة والذوق العام. وكذلك في أن تحاكي التجارب الإبداعية الجديدة، ما تأتي به التركة الموروثة الحاضرة في المدينة، والتي تستحق
العناية.