علي محمود خضيّر
في مجموعتها الجديدة، وصفات شتويَّة من ذاكرة جماعيَّة، وهي أول مجموعة تصدرها بعد فوزها بجائزة نوبل، تعمق لويز غليك النغمة الحارقة التي تضفي على أعمالها طابعاً يقاوم أي نوع من التفسير النهائي، حتى لكأنها تلقي على القارئ مهمة ما تعنيه القصيدة لنفسه. مجموعة صغيرة، بحدود 64 صفحة، تضم خمس عشرة قصيدة مكثفة تجمع أكثر من سبب يجعلك تعيد قراءتها – ليس لأن كاتبتها فازت بنوبل - فبغض النظر عن الفحوى العاطفي المعقد، ثمة أيضاً، طاقة السرد في النصوص. سرد غنائي، رشيق ومتدفق. في داخل كل قصيدة ثمة حكاية تروى.
قد تتظاهر النصوص للوهلة الأولى بالسهولة، لكنها سهولة ما أدركتَهُ بشكل تام لكنك لا تستطيع التحكم فيه. تتخلل القصائد المناظر الطبيعيَّة، الأجواء نصف الحلميَّة، أبطال شبحيّون، ومواجهات غائمة تعكس عدم اليقين والقلق الذي يشعله مأزقنا الإنساني الراهن والتنبؤات المشؤومة بمستقبل البشريَّة المرعب. ومع بعض الإشارات الدينيَّة المخاتلة، ترسل الشاعرة رسائل عن إمكانيَّة أن تصير المجموعة، في الأوقات الصعبة، ملاذاً ناجحاً للفرد.
تمَّ اختيار مجموعة «الوصفات» كأفضل كتاب للعام من قبل فاينانشال تايمز وأيرلند تايمز ونالت مراجعات حماسيَّة لناحية التقنيات المكثفة التي اختارتها غليك، والأجواء «الساكنة» والموحيَّة في آنٍ معاً، والتي تشع بين جنباتها قوة التأمّل التي «تشخّص المشاعر المعقدة إلى حدٍّ بعيد وناجح» بحسب تعبير أناهيد نيرسيسيان محررة مجلة نيويورك ريفيو أوف بوكس.
يشبه غلاف المجموعة، البسيط والفارق، السكون الذي يتلألأ في المجموعة، ويستحق بعض التفسير، إذ يعرض رسوماً للشاعر والفنان بادا شانرين والذي يحتوي عمله الخاص على خيوط دقيقة متماثلة، مغرية، منفذة بدرجة عالية من ضبط النفس. بعد سقوط أسرة مينغ تراجع بادا شانرين إلى حياة منعزلة في دير طاوي. يشير نقشه الذي يظهر على غلاف المجموعة، والذي نفذه في شيخوخته، إلى فراغ الخطاب السياسي، ويُوسَمُ بختم يحثُ المرء صوب جائزة الحصول على الخلود الروحي والنور الداخلي الذي لا يتحققان إلّا بالانسحاب من المغريات الدنيوية. تجد هذه الدلالة الفلسفيّة موازاتها بالرسم التعبيريّ المتوهّج لفرْخ الدجاج ذي اللون الحبري الأحادي، والذي على الرغم من اختصاره ببراعة مخادعة، إلا أنه مشبع بالسكون والهدوء، تماماً كمجمل أجواء المجموعة.
تعكس القصائد التفاصيل الدقيقة للعلاقات الإنسانية، وتتحدّث مع بعضها داخلياً بأشكال سردية وحوارية. تبدأ القصيدة الأولى في المجموعة، عنوانها ببساطة قصيدة، بصورة سوريالية لزوجين يشاهدان صبياً وصبيّةً، يأكلان التوت البرّيّ من طبق مطلي «بصور لطيور»، سرعان ما يطيران بعيداً. يرغب الزوجان بهذا الطيران أيضاً، لكنهما في النهاية يقبلان بمصيرهما «الهبوطي».
النهار والليل يأتيان
يداً بيدٍ كما لو كانا صبياً وصبيَّةً
يتوقفان مؤقتاً، لتناول توتٍ برّيّ من
طبق
مزيّنٍ بصور لطيور.
يتسلّقان أعالي الجبل المغطّى بالثلج
ثم يطيران بعيداً.
لكنّنا، أنا وأنت،
لا نستطيع هذه الأشياء.
نحن نتسلّق الجبل ذاته
أُصلّي للريح لكي ترفعنا،
لكن من دون جدوى؛
وتخبئ رأسك
كي تتحاشى منظر النهاية.
تركّز بقية القصائد على التفاعلات العابرة، والتي تجري، على سبيل المثال، بين شقيقين؛ الوالدين والأطفال؛ المعلم والطالب. يشهد القارئ كيف تتكشّف الأحداث في هذه التبادلات المتباينة والمقتطفات الصوريَّة بين الأفراد حول مواضيع مثل الموت والخسارة والندم، كل منها يعمّق صعوبات الحياة. تتأرجح العلاقات بين التوترات الثنائية لليقين والغموض. مع ذلك، في نهاية كل عمل تقريباً، يتم تعليق الحكاية فجأة، لا نهايات في القصائد، بل أجواء متكررة من الفراغ المتخلّي، إذ تعبر البدايات والنهايات بعضها البعض.
تبدو على بعض نهايات القصائد مسحة من الحكمة الصينيَّة؛ قصيدة إنكار الموت، على سبيل المثال، يلمِّح المتكلِّم إلى الرؤية الطاوية حيث «كل الأشياء تتدفق، مثل الكأس الفارغة، كل شيء يتغير. ومثلما كل الأشياء متصلة فإنّها، كلها، تعود». تؤكد هذه العبارات كيف يبدي «النظام الطبيعي» عودة الأشياء إلى بدايتها باستمرار/ دائماً. في قصائد غليك يتاح للقارئ التوافق مع الإيقاع الطبيعي للكون عبر «الذهاب مع التدفّق». تلمح غليك إلى إمكانية تحقيق السلام الداخلي للمرء عبر تبني تحولات الحياة واستيعابها.
مع ترسّخ عملها وازدهاره على مر العقود إلى تجارب متنوعة، أمطرت الجوائز والأوسمة بثبات على الشاعرة، ففي عام 1993، حصلت على جائزة بوليتزر عن ديوانها «القزحيَّة المتوحّشة». كما حصلت على جائزة دائرة نقاد الكتاب الوطنية، وجائزة بولينغن، وجائزة الكتاب الوطني، فضلاً عن العديد من الامتيازات الأخرى، بما في ذلك اختيارها في عام 2003 لجائزة مكتبة الكونغرس، ثم تتويجها بـنوبل.
في مقدمته لقصائدها، يشير الشاعر الاميركي بيتر ستريكفوس بأن الصورة في القصيدة «أقل أهمية من الطريقة التي تحول فيها الأفكار إلى حقائق. وغالباً ما تكون طريقتها هي المجادلة السلبية. مما يعني بالنسبة لها أنه لا يتطلب جمهوراً معاصراً واسعا للبقاء على قيد الحياة». تقول غليك إنَّ جمهورها نظري. «يكفيني وليام بليك وييتس وإليوت، وهم في مكانهم الصغير في الجنة، أريد أن أتصوَّرَهم يتأملون كلماتي».