محمد مهر الدين.. مغايرة واحتجاج

ثقافة وفن
  • 5-06-2022, 08:20
+A -A

باسم عبد الحميد حمودي
  

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
يعد الفنان الراحل محمد مهر الدين واحداً من أمهر صناع اللوحة خشنة الملامح كثيرة التفاصيل، تعطي في كل تأمل وجداني لها أفكاراً تأمليَّة متجددة في الخلط بين التجريد والواقع والاحتجاج على السائد المطروق.
لم يصل محمد مهر الدين البصري (1938 - 2015) إلى هذه القناعة في تنفيذ اللوحة إلا بعد جهد كبير وسنوات من العمل التشكيلي الجاد.
بعد إكماله الدراسة المتوسطة في البصرة انتسب إلى معهد الفنون الجميلة ببغداد عام 1956 محتكاً بكبار الأساتذة الذين طوّعوا أفكاره الجماليَّة، أمثال جواد سليم وفائق حسن والدروبي.
عند تخرّجه متفوقاً في المعهد عام 1959 أوفد للدراسة في أكاديمية الفنون الجميلة في وارشو حيث حصل على الماجستير في الفنون 
التشكيليَّة.
كانت أعمال مهر الدين في بولونيا مثار إعجاب أساتذته، وشاركهم الفنان الأسباني أنتونو تابييه الذي كان معجبا باشتغالاته على سطح اللوحة والعمل على تخشينها وسط صرخة احتجاجيَّة على الواقع.
أدخل مهر الدين الرمل وبرادة الحديد والزجاج والتزجيج واستخدم الحرق والدلك لاعطاء اللوحة سمتها التعبيريَّة التي يريدها.
كان مهر الدين في لوحاته مبتعداً عن الارتهان بمنطق اللوحة الطرازيَّة، وكان الدهان وألوان الزيت المتعددة جزءا من اللوحة التي يصممها ثم ينفذها مليئة بالثقوب والحروق واللمعان، واستخدام تقنيات الكرافيك والنحت والفوتوغراف السالب والموجب، فضلاً عن تجعدات سطح اللوحة لاعطائها صرخة الاحتجاج الجمالي التي يريدها، خصوصاً في معرضه الذي أقامه عام 1978 بعنوان (غريب هذا العالم) الذي انطوى على لوحات الدهشة والاحتجاج على الواقع المأزوم، مستخدماً   تقنيات الكولاج والكلمات المتقطعة والحروق لبناء لوحاته التجريديَّة التي اشتهر بها وهو يطور مهاراته التنفيذيَّة للوحة.
كان ذلك قد تمَّ في المرحلة الثانية من تطور اللوحة عند مهر الدين والتي سبقتها مرحلة البناء الجمالي المبني على الادهاش والمغايرة بعد صناعة أولية تخطيطيَّة للوحة قبل التنفيذ.
لم يكن مهر الدين هكذا عند البدايات، فقد كان معرضه الأول عام 1965 في قاعة (أيا) ببغداد لا يعطي سوى محاولة الإبهار وإثبات صيغة التجديد.
 وفي ذلك يقول التشكيلي الدكتور كاظم شمهود إنَّ مهر الدين في مراحله الأولى كان  كثير التغيّرات لا يثبت على أسلوب، لكنه في مرحلته الثانية تعامل مع سطح اللوحة تعاملاً فكرياً اعتمد جماليات الإبهار في الحرق والدلك والكولاج 
والتخشين.
كانت وسائطه الفنيَّة في التنفيذ تعتمد بداية على كروكية يصنعها بقلم الرصاص، وعند استقراره على حالة جماليَّة بعينها يبدأ العمل وسط افتراضات التغيير الذي يتم خلال تجسيد العمل الفني، لكنه عموماً استبط تجربة التخشين لسطح اللوحة بحيث يغدو الشكل في منظوره العام خاضعاً للغة جمالية تفارق المألوف وتحتج عليه في صيغتها النهائيَّة.
حقق الفنان ثلاث جداريات ضخمة في مطاري بغداد والبصرة وساحة الاحتفالات، بدت فيها تقنياته الأثيرة المختلطة مع النوعيَّة الطرازيَّة، لكنه جسَّد مفهومه في التغيير في بناء اللوحة التي نفذت كجداريَّة تلفت النظر جمالياً.
كانت لوحاته الأخيرة اختزالاً جماليَّاً للألوان يقابلها التزيين الملائم تجسيداً عبر الوسائل التنفيذيَّة التي اشتهر بها عبر الكولاج واستخدام المعادن –أحيانا – والتكفيت والحرق لصياغة لغة جمالية تشكيلية متجددة شديدة الإبهار عبر التساؤلات الفنية الكبرى التي تطرحها في معنى الوجود والعدم.
وإذا كان مهر الدين في بداياته من أمهر المروجين لفن الملصق إلا أنه في معارضه الأخيرة التي قام بها في عمان -الأردن قد اقترف فضيلة صياغة لوحات تجدد معنى الاحتجاج والمغايرة، عبر التقنيات الحديثة التي ابتكرها وجسدها في تجارب تبعث على الدهشة وقبول لغة التغيير المشهدي في بناء اللوحة الجديدة.
 توفي محمد مهر الدين في 23 نيسان 2015 في عمان، وأقيم له معرض استعادي بعد عام على الرحيل في العاصمة الأردنيَّة أقامه محبوه.
كان الفنان الراحل قد شارك في الكثير من المعارض العالميَّة في بغداد وأسطنبول ودلهي وأنقرة، وحصل على جوائز المعرض العالمي للملصقات عام 1982 والجائزة الثانية في أنقرة في البنيالي العالمي للفنون وعلى الجائزة الأولى للفنون في بغداد عام 1988، وعلى الجائزة الأولى في البينالي العالمي للفن الآسيوي في بنغلادش عام 1993، وجائزة الإبداع في الفن التشكيلي ببغداد عام 1998 وسواها من الجوائز الأخرى.