طار ولم يعد

ثقافة وفن
  • 2-06-2022, 08:04
+A -A

كاظم جماسي 
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
لم يكن نهاراً عادياً أبداً، وأتتني، الليلة الفائتة وحتى صباح هذا اليوم، ذات الغصة التي تلي الوصول، بعد عناء، إلى طريق مسدود، كلما استعصى عليَّ وضع نهاية مناسبة للقصة التي اكتبها.. وحين شرعنا بتناول إفطارنا، آخر حفنة عدس، أنا وزوجتي، وبالكاد ابتلعنا أولى الملاعق منه، حتى رنَّ جرس الباب، فتحته وإذا بذات الوجه الكالح للمرابي العجوز، مالك البناية، مزبداً ومرعداً يطالبني بسداد مبلغ إيجار الشقة، المتأخر ليومين فقط. مدردماً اقتنعَ بصعوبة، بوعدي له بالسداد بعد ساعة، مسافة الطريق فقط، لبلوغ منفذ الماستر كارد لتسلم معاشي التقاعدي.
 غادرت الشقة متعجّلاً، ولما وصلت مكتب المنفذ، وجدته لم يفتح بعد، كان الوقت مبكراً، جلست على حافة الرصيف منتظراً، استرجعت بعض ما علق بذاكرتي من أحداث فيلم الأمس «الخلاص من شاوشانك» حيث يحفر، بمعول جد صغير، البطل «تيم روبنز» السجين البريء حائط زنزانته الحصين، من خلف عجيزة ريتا هيورايت وهي تشرع ذراعيها تنتظر مد البحر في البوستر الذي علقه على حائط الزنزانة، وقد ظل يحفر طوال سنوات، بصبر وحكمة مدهشين، وبخطة محكمة، وإرادة صلبة، ليستخلص ثأره من سجانيه وعالمه الظالم، ويغادر السجن نحو فضاء الحرية.. السجن هنا، في الفيلم، مكان شاخص محدد الأبعاد.. يائساً، قلت: كيف لي الخلاص، وأنا الأعزل، من سجني اللامحدود في هذه الحياة؟
 فتح باب المكتب وكنت أول الداخلين، بادرني الصراف، أن الشركة متوقفة عن الصرف ريثما تتحقق، كإجراء سنوي، من أن عملاءها مازالوا على قيد الحياة.. أترك رقم هاتفك وسيتصلون بك.
 أي نهار شؤم هذا؟ عدت خائباً، أخبرت بواب البناية ووكيل مالكها بالأمر وصعدت إلى شقتي، ساعات النهار ظلت تزحف كما سرفات دبابة عتيقة متهالكة، يعاضدها جوع كافر، في طحن عظامنا وقبلها أرواحنا.. قبل مقدم الغروب، كنت في السوق القريب بعت ساعة شقتنا الجدارية الأنتيكا، التي ورثتها أباً عن جد، لصاحب متجر السلع القديمة، متبضعاً بمبلغها بعض طعام وقهوة ودخان. 
يبدو أن نهارنا لم يكن وحده غير عادي، بل بدت ليلتنا كذلك، إذ ونحن نتابع أخبار التلفاز مفطوري القلوب لمشاهدة القوافل المتزاحمة على الحدود الأوكرانية البولندية، من نساء وشيوخ وأطفال، ونثار الثلج يغطي وجوههم وجسومهم، هاربين من جحيم الحرب، صمت أسماعنا فجأة زخات رصاص منهمرة في باحة طابقنا وعلى السلالم، صحبها صراخ نساء وعويل أطفال، تملكنا الهلع فانبطحنا أرضاً مخافة أن تخترقنا رصاصة مجنونة طائشة.. ساعة مضت على هذا المنوال، بين صراخ وعويل ولغط ووقع أقدام راكضة، ونحن منبطحان خدينا إلى الارض، زوجتي وأنا، وجها لوجه، نظراتنا وحدها تتساءل: ما الأمر؟ ولِمَ؟
ساد بعدها سكون مريب، تشجّعت وقمت، أعنت زوجتي وبالكاد نهضت، لم تكن رجليها لتعينها، أخذتها سحبا إلى السرير، وطلبت منها أن تنام، الساعة جاوزت منتصف الليل، عدت فأطفأت التلفاز وأقفلت باب الشقة، ثم أطفأت الإنارة كلها، ومضيت لأنام.. لم يكن نوماً أبداً.. عواصف متوحّشة وأمواج متلاطمة، غيلان ومردة بهيئات جبارة، كوبرات ضخمة وعرابيد عملاقة، كائنات شوهاء جميعها تدهمني، زئير وخوار وصرخات، وأنا في خضم كل هذا، مسلوب القوى تماماً، أتطوح شمالاً وجنوباً، غرباً وشرقاً، دونما قوة أو حيل..
لم ينبلج الفجر بعد، صحوت، فوجدتني على مساحة سرير لم أعهدها من قبل، بدت كما ساحة لكرة قدم، جسدي لا يشغل منها سوى سنتيمتراً واحدا ليس غير، البطانية والشرشف والوسادة، شمعدان النوم، دولاب الملابس، موجودات الغرفة جميعها تبدت بإحجام مهولة، كما لو كانت غرفة نومنا غرفة نوم لعمالقة..
إلتفت حيث تغط زوجتي بنوم عميق، وقد بدت بحجم فيلة حقيقية.. ما الذي حدث؟! لبثت دقائق.. تحسست أطرافي، مررت بأصابعي على بطني، على وجهي، أنفي.. فمي.. عيني.. هرشت شعر رأسي، قرصت خدي بشدة، صحت «آخ».. غير معقول أبدا، أتكون سطوة الكابوس لم تزل مهيمنة؟ فلأجرب إيقاظ زوجتي، نغزتها لأكثر من مرة في كتفها.. لا فائدة، ناديتها: سليمة.. سليمة.. صحت باسمها عالياً.. لا فائدة.. انتبهت أن لا صوت لي فلم أسمع أي نبسة، أو أي حركة في حنجرتي.. هل أصبحت أبكما؟
كان لا بد من آخر يؤكد لي ما صرت إليه، فلست حتى اللحظة بمصدق.. قلت لأعتلي أرنبة أنفها لأقرصها، فعلت لكنها عاجلتني بضربة من أصبعها، قذفت بي بعيداً كما بقة، فوجدتني مكوماً مغشيا عليَّ عند عتبة باب الغرفة المغلق، كانت أوصالي تئن كلها، حين تحاملت خارجا من تحت الباب.. متوجهاً إلى الشارع، في محاولة لاستكشاف العالم بعينين جديدتين كليا..  كان الوقت شفقاً، ولم تكن المدينة لتستيقظ في هذا الوقت، والمنازل على ضفتي الشارع قلاعا كونكريتية شاهقة، واجهاتها الصماء مدرعة بعداء مخيف، كما لو أنها سجون أو مراكز للشرطة.. الكلاب والقطط وحدها من يجول ويصول في عرض الشارع وعلى الأرصفة أو في الأزقة، تبدو سعيدة مطمئنة في غياب من يؤذيها أو يزجرها، تمر بي، ترمقني بنظرات عطوف وتمضي، ألفيت قطيعا منها يتجه نحو مكب للقمامة، راقني أن أتبعه، محتفظا بمسافة بيني وبينه، مخافة أن تدعسني، عن غير قصد، قدم واحد منه.. وجدنا من هو قبلنا، حين وصلنا، شبح آدمي، شيخ هرم ذاوٍ، يقلب طبقات القمامة، يستخلص منها طعام إفطاره، توزعنا، القطيع وأنا، جهات المكب ورحنا مقبلين نفطر بشهية، وبينا أنا منهمك بتناول الطعام، بين آونة وأخرى، يتشممني مقترباً مني كلب، يدلق لسانه يلحسني مستأنسا وجودي، أو قطة تبادلني نظرات مودة وهي تموء لتستدير فتداعبني بكثافة ذيلها الناعم.. برهة وشاركتنا وجبة الفطور أسراب حمام وعصافير، أي جمع لطيف هذا وأي بهجة..       لم يمضِ كثير وقت حتى دهمتنا، كما كائن حديدي خرافي، عربة رفع القمامة، فلذنا، هلعين، جميعنا بالفرار، الكلاب والقطط والحمام والعصافير وأنا، ما خلا الشيخ الشبح، فلم تعنه ساقاه على النهوض، وظل مقرفصا بين القمامة، لم تلبث كيلة العربة أن رفعته مع كوم قمامة مودعة إياهم حوض
مكبسها ... 
    تعيسا أيما تعاسة وأنا أختبئ، دافنا رأسي بين ركبتي، وسط حشائش جافة تحيط بجذع شجرة بمبر، هي الأخرى، تبدو في النزع الأخير.. ومثلما شريط سينمي، مرت أمامي كل الميتات الكثيرة التي متها، القذائف العمياء وفخاخ الألغام والرصاص المنهمر كمطر جهنمي في الحروب، لدغات الأفاعي والعقارب والجوع والعطش في الصحارى القاحلة للجبهات، غرف التحقيق في مراكز الأمن، إذ ينأى عنك الموت بصلافة حين تتوسّله ذليلا، صالات العمليات إذ تظل ساهما تنظر الى الموت عينا بعين، ثم، وبالكاد تتنفس حياتك المدنية، تحاول قنصك عبوة ناسفة هنا، وحزام ناسف هناك، وبينهما كاتم للصوت مجهول الهوية. رفعت ناظري قليلا، فألفيت قربي جثة عصفور بالغ الصغر، وبعض ريشه مبعثر عالق بالحشائش، تناولت ريشته منها، وكانت بمتناول يدي ثمرة بمبر تكاد تجف، عصرت ما تبقى من سائلها اللزج على طول ذراعي، ثم لصقت الريشتين، قلت لأحاول، كما فعل عباس بن فرناس أو أيكاروس.. خفقت بذراعي مرة وثانية وثالثة.. ارتفعت قليلا.. ياللدهشة.. مسرعا ركضت أخفق بجناحي.. أنا أطير.. أنا أطير.. ها ها ها ها ها….. طرت.    
هناك في الأعالي، على فراش وثير من غيم أبيض، وأنا بكامل الفتوة، وبذهن صاف متوقد، تساءلت: أتكون قصتي، اللحظة، قد اكتملت؟