باسم عبدالحميد حمودي
في الخامس والعشرين من نيسان 2021 وفي مغتربه في ولاية فيلادلفيا بالولايات المتحدة رحل الخزاف العراقي الأمهر وأستاذ أجيال من شباب الفن التشكيلي، الفنان طارق إبراهيم، المولود في بغداد - الرصافة عام 1938. ويعد نقاد الفن التشكيلي العراقي الخزاف الصديق إبراهيم الضلع الرابع من أضلاع مربع الخزف العراقي المكون من سعد شاكر ونهى الراضي ومقبل الزهاوي الذين رحلوا قبله بأعوام.
كانت رحلة طارق إبراهيم صبيا رحلة لافتة، فقد كان يزورني بالكرخ مع صديقه فيصل الكعبي وهو يعيد رسم شخوص وتشكيلات مجلة (سندباد) التي كنا نعشقها، ويتقن رسم السندباد الصغير وميمونة وشيبوب والعمة مشيرة وسواهم.
كان طارق الصبي يعيد تشكيل لب الصمون الذي يستخرجه من جوف الصمون ويصنع منه أشكالا سحرية من المردة والجان، قبل أن يدخل معهد الفنون الجميلة ببغداد ويتخرج فيه عام 1959 حيث فارقنا الى الصين لاستكمال دراسة هذا الفن الكثير التفاصيل والتأثير الاجتماعي. كان طارق في الحادية والعشرين من عمره عندما انتسب الى معهد الفنون التطبيقية في بكين ليتخصص بالمادة التي أحبها.. الطين، فيما تخصص زميله رافع الناصري بالحفر الطباعي.
دخل طارق المعهد الصيني ليمزج أفكاره وتجاربه العراقية الشابة الغضة بالنتائج الصينية المبنية على إرث كبير في صياغة الخزف، وإنتاج تشكيلات مبهرة منه مبنية على سحر الصين وأخيلة عوالم الديناصورات والتشكيلات الأخاذة التي يجسّدها الخزاف الصيني بطواعية مذهلة ويضيف لها ما يملكه من تجارب يضعها أمام ابن النخيل وكلكامش والسعلاة وأبنية المعمار العراقي التاريخية.
خاض طارق إبراهيم وبصبر مذهل تلك التجربة الأخاذة في صياغة ذلك التمازج الروحي - الخزفي بين عالمين وأتقن عمليا طرق انتاج الخزف وطرق تحويله من طين خام الى عمل سيراميكي مبهر.
يقول التشكيلي الكبير ضياء العزاوي إنَّ طارق إبراهيم حاول منذ البداية الذهاب بإحدى خصائص السيراميك العراقي، وهي علاقته بالطبيعة الى ماهو أبعد من المعاينة الواعية.
ويصمم طارق إبراهيم موضوعاته محاولاً أن يضع الخصائص الفيزياوية للطين التي تنشأ بفعل الطبيعة محل ما يحيي به التزجيج من فتنة. حاول طارق إبراهيم أيضا تغيير عملية التتزيين باستخدام الحروفيَّة على الخزف، وصار ذلك سمة وميزة له وذلك بعد رحلته التالية إلى (كوبا) من الصين حيث أمضى سنتين في اكتشاف المجهول الكوبي في السيراميك وهو يتلاقح بفعله مع سطوع تجربته الخزفية في دجلة العراقية والنهر الأصفر الصيني.
شرب خزف طارق إبراهيم من مياه الطين العراقي والصيني والكوبي، وعندما انتقل طارق بعد هذا إلى موسكو كان مكتنزاً معرفياً لكنه أراد الاستزادة العلمية في تطويع الخزف لأفكاره في الصياغة الروحية للفتنة الجمالية.
عاد طارق إبراهيم بعد هذا إلى العراق ليقوم بعملية التوجيه المعرفي لطلبته الذي أحبوا تفانيه وسطوع خبرته وقدرته على صياغة الأسئلة الوجودية في صياغات سيراميكية مبهرة.
لم يكن طارق إبراهيم أستاذاً عادياً. فقد كان يعشق الطين ويحوله عبر صبره وتجاربه المتنوعة إلى تشكيلات هائلة، لكل قطعة من تجاربه هذه فكرة وهدف جمالي وفكري معا.
حازت معارضه في العراق وبكين وموسكو ولندن وتركيا والدول العربية على إعجاب وتثمين الدارسين
والنقاد. قال طارق إبراهيم في عدد من مقابلاته الصحفية والتلفازية أننا ينبغي إلا نكرر تجارب غيرنا، إذ إن الفنان الجيد هو الذي يصنع رؤيته المناسبة، لكن الحداثة لا تمثل القطيعة مع الماضي، وهو يعلق على تمسكه بالحروفيَّة بالقول: إنَّ الحروفيَّة ليست تزيينا لكتلة الخزف، لأنَّ الحرف عنده عمل موصل لرسالة معرفيَّة يطرحها معمار الآنيَّة الخزفيَّة التي يصممها الفنان ثم يجسّدها.
بعد هذه التجربة الغنيَّة التي حاورت الطين في أصقاع متعددة من العالم رحل طارق إبراهيم الى الولايات المتحدة منذ بضع سنوات قليلة حيث انتهت رحلة هذا الخزاف العراقي الماهر في غربته في فيلادلفيا منذ عام وسيظل أثره ساطعا مدهشا في رحلة الخزف العراقي بتجاربه المثقلة بالإبداع الرصين.