حاوره: فيصل رشدي
كاتب وقاص من السودان، عشق الكتابة حد الجنون، عاش مع المهمشين والفقراء والمنبوذين، فكانت رواياته وقصصه خير معبر عنهم. عبَّر عن واقع حقيقي عكس المأساة التي يعيشها أبناء جلدته، رسم طبقات المجتمع السوداني وتفاوتاته، وسلط الضوء على معاناة أهل دارفور، دافع عنهم باسم الإنسانيّة التي تجمعه بهم.
تحدثنا مع الكاتب والقاص السوداني عبد العزيز بركة ساكن، الذي رأى النور عام 1963 بمدينة كسلا، لكنه لم يطل به المقام هناك، بل ظل يعيش بين مدينتي خشم القربة والقضارف.
حصل ساكن على بكالوريوس إدارة الأعمال من جامعة أسيوط، درس التلاميذ وربط معهم علاقة مودة وحب، وانتقل بعد ذلك إلى منظمة بلان سودان، ثم حماية الطفولة السويدية واليونيسيف في إقليم دارفور ورصد معاناة الدارفوريين، كما عمل مديرًا لمشروعات البنك الدولي بالنيل الأزرق. لم يسلم من بطش النظام السوداني الذي حكم على أعماله بالمنع، نفي إلى النمسا ومازال يعيش الآن فيها بعيداً عن وطنه السودان.
لديه العديد من الأعمال الإبداعيّة الروائيّة: العاشق البدوي، رجل الخراب، منفستو الديك النوبي، الطواحين، رماد الماء، زوج امرأة الرصاص، مخيلة الخندريس، سماهاني، مسيح دارفور، الجنقو مسامير الأرض، والحياة الأخرى لزكريا.
أما أعماله القصصيّة فمنها: امرأة من الكمبو كديس، على هامش الأرصفة وموسيقى العظم، وصلاة الجسد. كما أعد أنطولوجيا الأدب الأثيوبي، وأنطولوجيا القصة القصيرة في القرن الإفريقي، والكتابان صادران عن دار ويلوز بجنوب السودان. ترجمت بعض أعماله إلى لغات عدة، من بينها الفرنسية والانجليزية والألمانية والأمهرية والكردية، والإسبانية، التركية، والعبرية، والنرويجية، والفارسية والسواحيلية.
نال عبد العزيز بركة ساكن المركز الأول في جائزة الطيب صالح للأدب، التي ينظمها معهد عبد الكريم ميرغني بأم درمان، عن رواية “الجنقو مسامير الأرض” ونال عنها أيضا جائزة معهد العالم العربي بباريس، وجائزة أدب عالمي وجائزة الأدب الإفريقي.
* ما هو التأثير الذي أحدثته روايتك «الجنقو مسامير الأرض” لدى القارئ العربي؟
- في ظني، أهم أثر هو أن أنها جعلت القارئ العربي، في صلة مع اللهجة العربية السودانية، أي أنها جعلت التواصل ممكنًا، أو أنها حطّمت أسطورة سيطرة لهجات مركزية على الأدب المكتوب في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الناطقة بلهجات عربية متعددة. ووفرت نوعًا من الاطمئنان في إمكانية التواصل بين هذه الشعوب بلهجاتها المحلية، وأظنها تشجع أيضًا الكتاب والكاتبات الذين يترددون في استخدام لهجاتهم المحلية في الكتابة السردية. وأن الأمر ممكن، كما هو معروف أنه لا يوجد شعب في العالم يستخدم اللغة العربية الفُصحى في معاملاته الحياتية اليومية، خارج المدارس ومكاتب العمل والتدوين الرسمي. من ثم احتقار اللهجات المحلية هو ناتج عن تعالي وهمي لا مكان له في الواقع، وإذا أردنا تواصلا حميما بين هذه الشعوب، لا بد أن نعرف لغاتهم ولهجاتهم، تلك التي يتبادلها العشاق وتتحدث بها الأمهات إلى أطفالهن ويستخدمها المغنون.
* كيف تعامل النقاد مع رواية «الجنقو مسامير الأرض»؟
- تعامل النقاد، ومنذ صدور الرواية، بجدية، ولو أنهم انقسموا إلى شقين لا وسط بينهما، من أعجب بها، وكتب عنها دراسات تحليلية جيدة، وعميقة، ومن كرهها، وكتب تقريراً إلى السلطات الشرطية، وطالب بمنعها وحرقها وتوقيف كاتبها، وكلا الفريقين أسهم في لفت انتباه القارئ.
* في روايتك «مسيح دارفور» رصدت معاناة سكان دارفور. هل استقيت تلك المعاناة من واقع عشته أم من متخيل عاشه آخرون؟
- كنت هناك، في ميدان المعركة، حيث أعمل مستشارا للمنظمة السويدية لحماية الأطفال واليونيسيف، وكنت أدرب الجنود الوطنيين والأمميين والثوار المسلحين، على حقوق الأطفال والقانون الإنساني الدولي. رأيت كل شيء، شممت فساء البارود، وضجيج المدافع، وآهات الجرحى والمغتصبات، لقد شهدتُ الدم والنار وصمت الإنسانيَّة: كان نعيق الصمت مؤذيًا.
* أكيد أن جنس القصة القصيرة في السودان لها رواد كبار، حدثنا عن القصة القصيرة في السودان وأهم روادها؟
- القصة القصيرة في السودان، هي التي تسيطر على المشهد الأدبي بصورة عامة، على الرغم من أنها فن معقد، ولها أدواتها التي تخصها. بل أستطيع أن أجزم أن لا علاقة لها بفن الرواية، ولو أنهما من نوع السرد، ولكن التراكم النوعي جعلها قائدة في المشهد، بفضل عباقرة القصة القصيرة في السودان، مثل إبراهيم اسحق، وعيسى الحلو، ونبيل غالي، ومبارك الصادق.
* للعالم الغربي دور نشر لها قوانين صارمة في نشر الإبداع، هل ترى الشيء نفسه ينطبق على دور النشر في العالم العربي؟
- الفرق بين دور سياسات دور النشر الغربية والعربية، فرق شاسع، فبعض دور النشر العربية ليست سوى متاجر للنشر، أو كنتين أدبي، يصعب على الشخص أن يحترم دار نشر لا تعطي الكاتب حقوقه المادية كاملة، بل هناك بعض الدور التي تطلب من الكاتب أن يدفع مالاً مقابل أن تقوم هي بنشر أعماله. أعني هذا الكاتب الفقير، الذي ينفق وقته في الكتابة والتحصيل، على جانب واجبات الحياة اليومية، عليه أن يدفع مالا للناشر، ما الفرق هنا بين الناشر وبائع التباك؟
في أوروبا، وفقا للقوانين التي تنظم علاقات النشر والتوزيع، فإنَّ الناشر هو الذي يختار ما يريد نشره، أي يقرأ المخطوطات، إذا وافقت سياسة الدار، فإنه يقوم بالدفع مقابل حق النشر والتوزيع. وعلى الرغم من ذلك تُوجد بعض دور النشر، ذات السمعة السيئة، التي تأخذ مقابلا ماليًا من الكاتب لكي تنشر له، وللأسف، أفسدها هذه الدور بعض الكتاب والمؤسسات العربية، التي تدفع للناشر والمترجم. ومعظم الكتب التي تنُشر في أوروبا بطرق ملتوية لا تجد مكانتها من الاهتمام الأكاديمي والإعلامي، ومن ثم تشيخ على أرفف المكتبات، ثم تموت.
* بوصفك كاتبا عربيا، كيف واكبت جائحة كورونا. وهل لك مشروع رواية بخصوص هذه الجائحة؟
- نعم، أنا كاتب من السودان يكتب باللغة العربية، هذا من أجل ضبط المصطلح، إذ لا ينتمي الأدب إلا لكاتبه، فالكتابة لا جنسية لها. أما في ما يخص جائحة كورونا، في ظني ما يكتب عن تلك الجائحة، سيكون بعد سنوات طويلة من انقضائها، لم تنضج بعد، الكتابة عنها الآن لا أظنها تستطيع أن تمتع أو تحزن، أو تفعل. ولكن هذا لا يمنع الذين لديهم وجهات نظر أخرى، في أن يكتبوا، أما بالنسبة لي، لم تنضج الجائحة بعد، ولم تختمر ذاكرتها.
* أعمالك تترجم إلى لغات عالمية، ما هي أصداء هذه الترجمات لدى القراء الغربيين؟
- أولاً كل لغة هي لغة عالميّة، وكل كتابة هي كتابة عالميّة، وفكرة العالميّة التي ترتبط بالغرب، ليست سوى خطاب سياسي يدجن مركزيّة أوروبا، والغرب عامة. لذا الآن أرحّب بترجمات أعمالي إلى لغات خارج أسوار تلك المركزية المفترضة، الكردية والأمهرية ولغة المساليت قريبًا والسواحيلية.. إلخ.
ولكن أستطيع أن أقول، إن كتبي في الفرنسية والاسبانية، وجدت ترحيباً معقولاً من قبل القراء والنقاد والصحافة الأدبية في فرنسا وإسبانيا. والآن بقرار من وزارة التربية الفرنسية، يدرسون كتاب «مسيح دارفور» في جميع الجامعات الفرنسية، عند مرحلة التبريز، وهذا أمرٌ حميدٌ، وخطوة جيدة في الوصول للقارئ الفرنسي والمحافل الأكاديميَّة.
* ماهو دور الجوائز في إنصاف الإبداع؟
- الجوائز مفيدة للكاتب، من الناحية الإعلامية والمادية، وفي أفضل حالاتها أنّها تمثل نوعاً من الدعم النفسي للكاتب، الذي لا يهتم به أحد، وتقوم أعماله بهذا
الدور.