أ. د. سعد التميمي
منذ القدم عاش الإنسان قلق الوجود فدفعه ذلك نحو تفكيك جدلية الحياة والموت وفي الشعر المعاصر، ارتبطت هذه الجدلية بتجارب واقعية تركت أثرها في نفوسهم، وبقيت حاضرة في ذاكرتهم تظهر بين الحين والآخر معبرة عن هم فردي أو جمعي لتعبر هذه الثنائية عن معاني الحزن والفرح واليأس والأمل لتتحول فلسفة الموت الى رؤية تتحول فيها دلالة الفناء والغياب إلى الانبعاث والحضور، ليتحول الموت إلى خلاص من حياة مليئة بالآلام والمآسي، وقد أثارت حادثة سقوط الطفل ريان في البئر المشاعر الانسانية، وحفزت الشعراء للتفاعل معها سريعًا، فكتب بعضهم قصائد صورت رؤى مختلفة ومشاعر متنوعة وهيمنت الانفعالات المباشرة والتوظيف المباشر لقصة يوسف في غيابة الجب، ليطغى المنحى الخطابي على كثير منها، إلا أن الشاعر الربيعي في قصيدته "آبار" التي نشرها مؤخراً، استطاع أن يتجاوز لحظة الانفعال إلى فضاء الفكر فجات قصيدته لتعكس جدلية الحياة والموت التي أرّقت الإنسان منذ كلكامش حتى الآن، إذ وظف مواجهة ريان غيابة البئر الموحشة وارتقاء روحه نحو السماء، ليصبح قربانا للطفولة والانسانية، فقد صور الربيعي الموت بالنسبة لريان ملاذاً إلى حياة حالمة بالسلام والمحبة والطفولة، لتتحول التجربة مع الموت من شخصية بكل الجراحات التي عايشها الشاعر إلى تجربة جماعية تنادي بحقوق الأطفال في مناطق مختلفة من العالم، يرزحون تحت نير الفقر والجوع والحرب والمنافي، وقد جاء العنوان ليعكس حجم المعاناة فقد اختار الشاعر صيغة الجمع لمكان الفاجعة (آبار) وجاء به نكرة ليضاعف حجم المأساة مرتين مرة بالجمع وأخرى بالتنكير.
ولما كان العنوان عتبة تقود المتلقي للغوص في أعماق النص، وبؤرة تنطوي على دلالات عميقة، فإنه أيقونة مكثفة تساعد على اختراق عوالم النص، وهو أيضا لمحة تحيل إلى إيحاءات جمالية تغري المتلقي وتجذبه إلى النص بما يحمله من إشكالات ورؤى ومتجددة، وفي قصيدة (آبار) جاء على شكل ومضة إضاءة المعاني والأفكار التي قدمها الربيعي في متن القصيدة، إذ يتسم العنوان بالعمق والاختزال والتكثيف لما يحمله من دلالة رمزية قامت على الانزياح والمفارقة، فالشاعر يحيل بالعنوان إلى حجم الكوارث التي تواجه الطفولة والانسانية، فهذه الكارثة ستتبعها كوارث ستتبعها وهذا ما تكشفه صور القصيدة اذ يقول في مطلعها).. ونجوتَ أخيرا يا (ريّان) غادرتَ البئرَ/ ظلامَ الوحشة/ والماءَ الغاطسَ/ في النسيان/ لتقولَ لمن وقفوا حول البئرِ: صعدتُ/ ولكنّ الكوكبَ/ ظلّ وحيدا/ يتدلّى بحبالٍ يقضمها فأران: رصاصةُ قابيل ونردُ الشيطان.
إذ يعتمد الربيعي السرد والحوار ليتحول الخطاب من الشاعر إلى ريان ثم من ريان إلى العالم لكن السارد في القصيدة هو الشاعر، وتتجلى جدلية الحياة والموت في تبادل الألفاظ المتقابلة في دلالاتها، فتارة يعبر الشاعر عن الحياة بألفاظ دالة على الموت، وتارة أخرى يكون العكس، ففي مطلع القصيدة يوظف الشاعر الفعل (نجوت) مخاطباً به الطفل (ريان) ليصور الموت الجسدي الا أنّه أراد أن يصور الروح التي تراقب الواقع، وهذا ما يكشفه خطابه فيما بعد، وهذا الأمر ينطبق على الفعل (غادرت) الذي يدل على الموت والربيعي نقله إلى دائرة الحياة، لذلك يخاطبه بقوله (لتقولَ لمن وقفوا حول البئر) وإذا كان الظلام والوحشة تدل على الموت فإنّ (البئر والماء) ترمزان في الأصل للحياة إلا أن الربيعي ينقلهما الى دائرة الموت في القصيدة، وتبقى الجدلية حاضرة في معظم مفردات القصيدة، فالماء غاطس والبئر مكانِ مستبد بالظلامُ والسواد والفعل (صعدت) يحيل إلى صعود الروح، أما اختيار الشاعر لمفردة (الكوكب)، فإنّه أراد أن يصور المصير المجهور الذي ينتظر الإنسان تنبيهًا على المخاطر التي تحيط به فهو وحيد يتدلى بحبال يقضمها فأران، في إشارة إلى ما يتربص بالكوكب، ويأتي ذلك من خلال تركيبين اضافيين أضاف في الأول (رصاصة) إلى (قابيل) القاتل الأول الذي تحقق على يديه موت هابيل في تناص مع القرآن، وفي الثاني أضافة (نرد) التي تدل على المغامرة إلى (الشيطان) وبهذا التوظيف تتحول اللغة إلى بنيةٍ دلاليةَ فاعلة ومؤثرة تعكس رؤية شعرية تجسدها طبيعة العلاقات التفاعلية ذات جدلية عميقة تكشفها الثنائيات التي تجعل القصيدة تعكس رؤية الشاعر للعالم وتخلق أفق الانتظار لدى المتلقي، حتى يصل إلى مقصدية الشاعر، ليتماهى مع التجربة في أبعادها الجمالية والاقناعية.
إنّ جدلية الحياة والموت في هذه القصيدة زادت من فاعلية الرسالة التي أطلقتها وجعلتها منفتحة على تأويلات تمنح الجملة الشعرية دينامية عالية، ويحقق الدهشة في مشهد درامي يحيل الى المآسي التي تطال الإنسان في مناطق مختلفة لتبعث القصيدة رسالة الحياة وانتشالها من دائرة الفناء، إذ يقول الربيعي:
وبملء فمي/ سأقول لكم: شكرا/ ماذا عمّن سقطوا قبلي/ وورائي في آبار الجوع/ الدمع/ الفقد/ ويتم الأوطان/ وهم الآن ينامون/ بلا سقف/ وبلا أسماء/ لا آباء/ ولا عنوان/ ولكي يردمَ من بعدي البئر/
أهيلوا ضوءَ القلب/ ومدّوا دلوَ الحبِّ/ فيخرجُ من جلدِ الذئبِ ضميرُ الإنسانْ.
في هذا الجزء من القصيدة يحاول الشاعر أن يبعث رسالة إنسانية على لسان (ريان) (بفمي الملآن أقول لكم) من خلال توظيف الأفعال الكلامية: الاستفهام (ماذا عمن سقطوا...) والأمر (أهيلوا، مدوا) لرفض الجوع والحزن واليتم والمنافي والضياع (لا عنوان) فالاستفهام قصد فيه الشاعر رفض الموت بأشكاله المختلفة للطفولة والإنسان، أما الأمر فقصد به الرغبة بالحياة وهذا ما تحيل إليه ألفاظ (القلب، الحب، ضمير الإنسان) ويأتي توظيف قصة يوسف في آخر القصيدة بطريقة مختزلة ومكثفة ومغايرة من خلال قوله (يخرج من جلد الذئب ضمير الإنسان) في دعوة لانتزاع الشر من النفوس لينعم الانسان بالسلام.