نجم والي
المكان: مدينة العمارة في جنوب العراق.
الزمان: 8 شباط / فبراير 1963
الصبي: أنا
المرأة: هي
أمس مرت ذكرى تسعة وخمسين عاماً على انقلاب 8 شباط.
كنت قد دخلت للتو السابعة من العمر، حينما كان على أمي إجراء عملية جراحية. وكما كل طفل كان تعلقي بأمي كبيراً، ربما بسبب تخلف الطب عندنا، أو ربما للرهبة الموروثة عندنا من شيء اسمه، العملية الجراحية، ظننت أنها ما أن تدخل غرفة العمليات ستموت. اِجتازت أمي العملية بسلامة، لكنها نزفت الدم الكثير، ولأن دمها من الفصيلة النادرة أو نيجاتيف، كان من الصعب الحصول على دم لها، ولسوء حظها، أن المرشح الوحيد لمنحها الدم، أبي، وقع مريضاً، وكان من الممكن توقع كل شيء، باستثناء أن تتبرع في هذه الحالة الطبيبة نفسها. المديح الذي قيل بحق الطبيبة، جعلني أصر على رؤيتها، "بعد أيام قليلة وتكون أمك عندكم"، قالت لي، وكيف لا أصدقها، وهي الطبيبة التي شاع اسمها لمهارتها ولعلاقتها الحميمة بمرضاها. لم اسمع يوماً أحداً تحدث عن الدكتورة سميرة العِرس بسوء.
لم تمكث أمي سوى أيام قليلة في المستشفى، ليس لأن صحتها تحسنت، كما تنبّأت الطبيبة، بل كان عليها مغادرة المستشفى، لأن انقلاباً جديداً هزّ البلاد في الثامن من شباط 1963، انقلاباً دموياً أبطاله العسكر. كنت أسمع الهمسات والاحاديث في البيت، وأرى حزن جدتي على موت الزعيم "الأوحد" عبدالكريم قاسم. لكن ماعدا تلك المشاركة الوجدانية، فإن ما حدث لم يعنني مطلقاً، لأن أسرتنا خلت من أي نشاط سياسي (أنا الوحيد الذي جلب البلاء تباعاً)، ربما ما حدث ظل عابراً، بل لربما لأتخذت حياتي مجرى آخر، لو لم يحدث ما جعل حياتي تنقلب على عقب.
لقد غادرت أمي المستشفى مجبرة وقبل أن تكمل نقاهتها الصحية، لحاجهتم للأسرة، يجب إخلاء المستشفى للجرحى والمصابين، "ضحايا المواجهات التي حدثت بين الانقلابيين وأنصار الزعيم"، كان وجه أمي كدراً جداً، كان يُمكن أن يبقى سبب ذلك مبهماً بالنسبة لي، لو لم اسمعها تقول لأبي باكية، "جاؤوا إلى المستشفى واعتقلوا الدكتورة سميرة". لقد نزل الخبر عليَّ مثل الصاعقة. كم أحببت الدكتورة سميرة، ليس لأنها التي أنقذت أمي وحسب، بل لأنني وعلى طوال الأيام القليلة التي أقامت فيها أمي في المستشفى، كان يكفيني رؤيتها قادمة من بعيد، بإبتسامتها الجميلة وتلويحة يدها اللطيفة لي، لكي أعرف، أن كل شيء على ما يرام، وأنها مجرد أيام قليلة أخرى وستكون أمي عندنا في البيت، لكن أن تخرج أمي من المستشفى، وتُعتقل الدكتورة سميرة، هذا ما لم أفهم له تفسيراً. ماذا سيحدث للدكتورة سميرة، سألت أمي، وأجابتني وهي تبكي، لا شيء، لكن ارتعاش شفتيها ودموعها جعلاني أشعر بالخطر الذي ينتظر الدكتورة سميرة، لا سيما وأن صور رجال الحرس القومي (لاحقاً أُطلق عليهم في زمن الديكتاتور: رجال الجيش الشعبي) كانوا يجولون في الأزقة برشاشاتهم، يدورون على البيوت، بسيارات بيك آب، يخرجون المعارضين لهم من البيوت، يضربوهم بأعقاب البنادق ثم يشحنونهم بشاحنات حمولة جلبوها لهذا الغرض. صور الحرس القومي هذه وحدها تبعث في جسدي القشعريرة.
كان بيتنا يبعد ثلاثة بيوت عن بيت مختار محلتنا المحمودية عبدالرحيم السامرائي. ذات ليلة شعرت بحركة غير عادية عندنا في البيت، نوع من الترقب من شيء سيحدث، صحيح أنني لم أعرف ما يدور، ألا أن الخوف والقلق اللذين بديا على وجوه أفراد الأسرة، كبار السن منهم، جعلني أبقى يقظاً أنا الآخر. فجأة سمعت أمي التي وقفت في حينه تتطلع من شق الباب الذي فتحته على المنتصف، تشهق: "جاؤوا". في تلك الليلة على الرغم من البرد الذي هجم علينا بقوة، صعدنا إلى سطح البيت، ننظر إلى ما حدث. هناك رأيتها، مكبلة اليدين، ثيابها ممزقة، شعرها منفوش، يسحبها رجال الحرس القومي، بعضهم، دفعها بكعب رشاشته. كانت الدكتورة سميرة هي أول من نزلت من سيارة شحن عسكرية وقفت عند باب بيت المختار، لتنزل وراءها مباشرة عشر نساء أخريات، منفوشات الشعر، ممزقات الثياب.
منذ تلك الليلة، أصبح بيت المختار عبدالرحيم السامرائي سجن النساء الشيوعيات، يحرسه فريق صغير من الحرس القومي، لا يغادرن الدار إلا مرة واحدة: في ساعة متأخرة من الليل تأتي سيارة عسكرية تأخذهن إلى بهو الإدارة المحلية، في الجهة الأخرى من نهر دجلة، على الطريق السريع الذي يقود للبصرة، ثم لترجعهن في ساعات الفجر الأولى إلى بيت المختار. طوال الليالي تلك لم تَرَ عيناي النوم. أتسلل من فراشي بخفة، أجلس عند الباب، أفتحه قليلاً، وأظل على الرغم من البرد والظلمة جالساً هناك، أنتظر عودتهن من بهو البلدية، ممزقات الثياب، غطى الدم وجوههن.
في ساعات النهار كنت أتسلل إليهن، أُهّرب معي الأكل الذي كانت تحضره لهن نساء المحلة تضامناً. كنت أخفي الأكل تحت دشداشتي، أدخل وأخرج بذريعة زيارة بيت المختار واللعب مع الأطفال، لم يشك الحرس القومي مطلقاً، خصوصاً وأننا كأطفال في تلك السنوات كان لنا مطلق الحرية بالدخول والخروج إلى البيت الذي نريد في المحلة. اليوم وأنا أكتب هذه الكلمات، أعرف، بأنها هي زياراتي تلك، التي صنعت مني هذا الـ نجم الذي يتذكر بقوة ما حدث في سنوات الرعب تلك. هل هو قدرنا في العراق العيش في الرعب؟ هل هو قدرنا، ألا نملك وسيلة أخرى لمعرفة ما هي "الحرية" بغير هذا الشكل؟، كأن الحياة لا تعرف أشكالاً أخرى تعرضها علينا هناك؟.
أتذكر الفرح الذي كان يلتمع في عينيّ الدكتورة سيمرة كلما رأتني أدخل مجاز البيت، وحين أنتهي من تسليم الأكل للنساء، تتركني أجلس إلى جانبها، وتبدأ بمداعبة شعري، وفي كل تلك المرات وكلما سألتها، عن السبب الذي جعلها هي ورفيقاتها ينتهين إلى بيت المختار، كانت تضحك، وتبدأ برواية القصة تلو القصة، فأعرف منها، أن هناك رجلاً ملحى ألمانيا قد قلب العالم على عقب، وأن امرأة ألمانية أخرى (وكانت تعني روزا لوكسمبورغ) سارت على خطاه، انتهت إلى السحل في شوارع مدينة اسمها برلين (أية مصادفة: الآن أكتب هذه الكلمات من برلين؟؟)، لكن الدكتورة سميرة، لم تروِ لي قصصاً لها علاقة بالسياسة فقط، إنما كانت تغني أحياناً بصوتها الجميل.
حدثتني عن اسمهان وليلى مراد. قرابة نصف عام دامت إقامة الدكتورة سميرة ورفيقاتها في سجن بيت المختار (الإيقونة: المصورة سميرة مزعل مثلاً)، قرابة نصف عام توزع عالمي: في النهار أجلب الأكل للسجينات، ألبي لهن الطلبات، أنا طفلهن المدلل. في الليل أجلس عند شق الباب الصغير، أنتظر مجيئهن من حفلة الدم التي كان ينظمها القتلة البعثيون، كم هو عدد الخطط التي رسمتها في خيالي، لتحريرهن من السجن؟ في تلك الليالي بدأ كرهي لأصحاب الشوارب الغليظة، و...للحروف الخمسة التي شكلت هذا الاسم الكريه: البعث.
منذ ذلك الحين أيضاً وأنا أرى العالم بعين امرأة؟ سميرة العِرس لم تكن الدكتورة التي أنقذت أمي وحسب، بل كانت بالنسبة لي هي كل النساء.