ستار كاووش
حين سافر ألفونس موخا (1860 - 1939) في بداياته الفنية إلى باريس، لم يكن يعلم أن القدر سيضعه وجهاً لوجه مع أعظم ممثلة مسرحية في العالم وقتها، سارة برنارد.
وقفَ أمامها بعد أن تجرأ ورسم ملصقاً لمسرحيتها الجديدة (غيسموندا)، لتنبهر بالرسم وهي تتأمل السحر الذي قدمه لها هذا الفنان القادم تواً من جمهورية التشيك.
حينها التَفَتَتْ نحو الفنان الذي يبحث عن فرصة لعمله في باريس المليئة بفنانين عظام لا يمكن التنافس معهم بسهولة، وابتَسَمَتْ قائلة: (لقد سحرتني أيها الرسام)، وفي ذات اليوم وَقَّعَتْ معه عقداً لمدة أربع سنوات، رسمَ خلالها ملصقات وإعلانات مسرحياتها التي كانت تجذب جمهوراً واسعاً من كل أنحاء العالم.
هكذا خطا موخا أولى خطواته في عاصمة الفن.
وتقديراً لمسيرته الفنية الحافلة بصنع الجمال، أسست له مدينة براغ التي نشأ فيها، متحفاً يضم أغلب أعماله.
زرت هذا المتحف الذي يديره الآن حفيده جون موخا، وهناك رأيتُ كيف رسم هذا الفنان سارة برنارد وجعلها مثل ملكة قديمة بزغتْ من التاريخ بثيابها الطويلة المزخرفة التي تتدلى أطرافها وتبدو كأنها تريد أن تخرج من إطارات اللوحات.
ما أعظم السيطرة على الخطوط السوداء في هذه الأعمال المذهلة.
سارة برنارد تلعب دورها في المسرحيات، بينما الخطوط المنسابة بنعومة وعناية تلعب الدور الأهم في الملصقات البارعة والمؤثرة.
لقد أَثَّرَ موخا كثيراً في الفن، بداية حداثة القرن العشرين، ولا سيما في الآرت نوفو والآرت ديكو، ولا أحد يعرف كيف يمكن لهذا الفنان أن يرسم بهذه الطريقة الاستثنائية ويتحكم سواء بالخطوط أو النساء الناعسات اللواتي تحيط بهن زخارف وزهور وأوراق أشجار تتداخل بتناغم مع ديكورات غريبة التصميم.
نساء يسبحن في فضاءات من اللذة والفرح، بخصلاتِ شعرٍ طويلة وإيماءات أصابع وقلائد نادرة وتيجان صممها بشكل خاص لتدخل في لوحاته، بينما ترفرف أطراف الثياب وتتطاير في كل المشهد.
هذا الفنان الساحر الذي ملأ أعماله بقصص ورموز وحكايات نساء بكامل الفتنة وقوة الشخصية والغواية أيضاً، قد استعار كل زخارفه وأشكاله من أغصان الأشجار والنباتات وفن الموزائيك والرسم على الزجاج المعشق بالرصاص.
رسم كل ذلك بخطوط خارجية داكنة تحيط كل التفاصيل، ثم يأتي اللون ليثبّت كل شيء في مكانه، لتكون النتيجة التماعة رضا في عيون الموديلات، هذه الالتماعة التي انعكست بالتأكيد من روح الرسام وتفانيه في عمله المتقن حدّ السحر… السحر الممزوج بالبهجة.
يبقى موخا ليس فقط واحداً من أعظم رسامي الملصقات، بل هو برأيي، الأعظم على مرّ التاريخ، هذا الفنان الذي جعل من الملصق عملاً فنياً متكاملاً ودفع طباعة الإعلان خطوات كبيرة إلى الأمام، لترتفع قيمته ويكون بمصاف فن
المتاحف.