حارث رسمي الهيتي
لا تولد الظواهر فجأة، والنظر اليها باعتبارها وليدة اليوم هي نظرة قاصرة، فهي تبدأ من حيث لا ندري، تنمو وينمو تفكيرنا معها الى درجة التماهي أحياناً، تكبر وتتضخم ولا ننتبه لوجودها ربما الا لحظة شعورنا بخطورتها وهي اللحظة التي يكون فيها من الصعوبة بمكان أن نجد حلولاً جذرية من شأنها أن تخلصنا كثيرا من الآثار
الكبيرة.
أيام دراستنا الابتدائية كنا ننتبه كل يوم خميس في مراسم رفع العلم المعروفة الى مجموعة من الطلبة، كانوا يرتدون زياً عسكرياً معيناً، عرفناهم لاحقاً باعتبارهم «الطلائع»، في ما بعد أدخل تفصيل جديد للمراسم تلك، أن يقف ثلاثة تلاميذ يحملون بنادق الكلاشنكوف يقوم أحدهم بإطلاق ثلاث رصاصات تبدأ من رفع العلم وتنتهي حال ما يصل الى نهاية
ساريته.
والى اليوم أجدني دون مبرر لتصرف مثل هذا أمام تلاميذ تتراوح أعمارهم بين السادسة والثانية
عشرة.
بعد فترة كانت أشبال صدام، التنظيم العسكري بثيابه السوداء، كان التلفزيون الرسمي يبث صوراً ومقاطع فيديو لهم وهم في معسكرات التدريب ويقطعون الأرانب والافاعي بأسنانهم، في اعادة انتاج لتجربة النظام النازي ومعسكرات التدريب خاصته، وصولاً الى أن يحمل الأئمة والخطباء سيوفاً وبنادق وهم على منابر
الجمعة.
في تجربة العراق «الجديد» أغفلنا أهمية أن نتوقف على كل هذه الأخطاء في تنشئة الأجيال الجديدة، تلك الأجيال التي شاهدت وتلمّست وجود السلاح وحكمه وسطوته في الشوارع، من سلاح الاحتلال الأميركي الى ذلك السلاح، الذي أشعل مدن العراق كلها أيام الاقتتال الطائفي وصولاً الى سلاح عصابات داعش، الآن وبعد كل خرق أمني نتعرض له في منطقة ما تنطلق أصوات مخيفة تكثر من الدعوة الى تسليح أبناء المناطق التي تتعرض لتلك الخروقات، وهي دعوات لا أراها غير أنها طامحة نحو العسكرة، ليتحول هذا السلاح لاحقاً الى فاعل سياسي قادر على فرض رغباته وطموحاته والا ما شأن ابناء أي منطقة ومحاربة الارهاب، أن يتعاون هؤلاء والقوات الأمنية لمواجهة خطر العصابات الارهابية شيئا وتسليحهم شيء آخر، عسكرة المجتمعات لا تخدم احداً، وكل التجارب التي اعتمدت وعوّلت على ذلك فشلت وانهارت ودخلت في مزيد من مستنقعات الدم التي وعلى ما يبدو ان هنالك من يدفع باتجاه ألا
تنتهي.