نجم والي
على مرّ تاريخ الأدب والفلسفة، يعرف المرء كم أنهما لم يبطلا، بل أسرفا بتأسيس ووصف المدن الخيالية، الفانتازية. وليس من الخطأ القول، بل إنه من الأرجح، أن كل شيء بدأ مع الفيلسوف الإغريقي أفلاطون، الذي هو أول من أسس لنظرية أو موقف: الخيال ـ الحقيقة.
فالحوار في كتابه «الصوفي» مبني كله على استحالة التمييز بين ما هو حقيقي وبين ما هو مصطنع، بين ما هو واقعي وما هو زائف، مختلق، وحسب ما يقوله أفلاطون، أن من يملك الحقيقة، من حقه أن يكذب أيضاً، أو أن الكذابين هم وحدهم من يعرفون الحقيقة.
على أساس هذا المنهج خلق أفلاطون من العدم قارة (ومدينة أكثر حضارية معارضة لأثينا)، التي هي، رغم ذلك، يقول أفلاطون، ابتلعت من قبل البحر: «أتلانتيس» أو «أتلانتيكا»، تلك المدينة التي كانت المدينة الفانتازية الأولى في الأدب، وكذبة وجودها عبرت كل العصور حتى وصلت لنا ولتصبح في النهاية مثل حقيقة، وكأنها ثبتت تقليداً لمدن أخرى سارت لاحقاً على خطاها.
«مدينة الشمس»، هي مدينة أخرى، مدينة شيوعية وتيوقراطية، اخترعها الشاعر توماسو كامبانيلا في القرن السادس عشر، وهي مدينة فانتازية أيضاً، مثل «يوتوبيا» (التي أُشتق منها اصطلاح «اليوتوبيا»)، مدينة الفيلسوف الإنساني توماس مور، والتي صورها هو على شكل جزيرة (ومدينة) فانتازية تماماً، تصل ذروتها حتى الحدود القصوى، حدود الوضع الأنموذجي الذي يستند الى التسامح، المدينة التي تحولت إلى رمز مثالي في الأزمان التي تلت وحتى زماننا، رمز لن نتوصل إليه، بسبب ما دمغ كل هذه الأزمان من استبداد، وحروب ودمار وحكم بالموت، مدينة «هيلسينغور»، التي تقع في شمال الدانمارك، قبل العبور للسويد (عبرتها شخصياً عدة مرات)، بقلعتها، رغم أنها موجودة بالفعل، تحولت إلى مكان فانتازي، لأنها القلعة التي وقف عندها هاملت شكسبير، حيث رأى شبح
أبيه.
بالقوة نفسها، هي صورة الخيالات العجائبية التي تُثيرها البلاد التي زارتها «أليسيا»، وماذا عن «بابل»؟ بابل المكتبة وبابل الحظ، التي رسمها بورخيس، وماذا عن «ماكوندو» غارسيا ماركيز، التي صاغها على خط المدينة المخترعة الأخرى «یاکناپاتافا» لمعلمه صاحب «الصخب والعنف» الأميركي الشمالي وليم فوكنر؟، وماذا عن المدن الجيوميترية للـ «مدن غير المرئية» للإيطالي إتالو كالفينو؟
وبالتوازي مع تلك المدن التي اخترعتها الخيالات، تتأسس مدن أخرى، يمكن تسميتها «مدن الرغبة»، والتي هي بالحقيقة مدن واقعية ومعروفة، لكنها بعيدة، وغالباً ليست بمتناول اليد، يمكن تمييزها بنوستالجيا العودة المستحيلة، التي لا تدع المرء ينام، تلك المدن المغلفة بنوع من الاستعارة الاصطناعية الساحرة التي تجعل هيئتها تتغير يومياً، كل لحظة، حتى تصل حدودها القصوى، التي يختلط فيها الخيال مع الحقيقة.
فالمدينة الصغيرة «كومبري» للفرنسي مارسيل بروست، ليست هي في الواقع بعيدة جداً عن باريس، لكنها في الوقت نفسه مدينة «فانتازية» لأنها تمثل «البحث عن الزمن المفقود» الذي تحول إلى إحدى أكبر روايات القرن العشرين. «الاسكندرية» الفانتازية لكفافيس، هي من دون شك تحمل الأروما الأصلية لمكان ولادته، لكنها في الوقت نفسه، تحمل صفاءً يوتوبياً، على الرغم من أنه يمنحها الجمال ذاته الذي منحه لها لورينس داريل، إلا أنه يصنع منها مدينة تختلف عن «اسكندرية» رباعية الكاتب الإنكليزي الذي عاش فيها ومات في مدينة أفينيون في فرنسا، والتي هي خليط من تأنيب الضمير والضغائن، خليط يمتزج فيه الحب مع النوستالجيا لواحد من أجمل الكتب التي كُتبت عن الاسكندرية في كل الأزمان.
«دبلن» جويس، هي مدينة محبوبة ومكروهة، وبعيدة جداً، وهي بمعنى ما «فانتازيا». بالشكل نفسه تبدو فانتازيا مدينة «لشبونة» كما يصورها شاعر الأنوات المتشظية فرناندو بيسوا، على شكل رمز لخليج مفتوح يعرج عليه المرء من أجل الإقلاع بسفينته بصورة دائمة باتجاه غير معروف. وأكثر من ذلك هي «سمرقند» البعيدة المنال لبيرناردو سواريز، إحدى شخصيات او أنوات فرناندو بيسوا في «كتاب اللاطمأنينة»، وبصورة مشابهة لتلك اللاطمأنينة الممتزجة بالنوستالجيا، صاغ شاعر مغموم آخر، اسمه بدر شاكر السياب، مدينته أو قريته «جيكور».
أليس معنى «أيتاكا» يكمن أكثر او يأخذ معناه في رحلة يوليسيس، وبالذات بالمعنى ذاته الذي أوحى لنا به كونستانتين كفافيس، الشيخ الجليل (كما سماه داريل): «إيتاكا تهديك رحلة جميلة جداً، دونها لن تكون عرفت الطريق. لكن ليس عليها أن تعطيك شيئاً». ولكن أليست كل تلك المدن هي رمز للأدب؟ ألا يكمن معنى الأدب في النهاية، في «فن الهروب»، وأليست كل المدن هي مدن تنتمي للحلم، مثلها مثل عماريا «ملائكة الجنوب»، لأن تذكرها يعني استذكار أمكنة ما عادت موجودة، كما أنها تكتسب جمالها لهذا الصوت الداخلي الذي تبعثه كل حجارة منها فينا ويقول: «ما ترونه هو وهم... سراب في سراب».
هكذا هي بغداد، البصرة، غرناطة، دبلن، باريس، لشبونة، الاسكندرية، قرطاجة الهنديات وآراكاتاكا.. ربما أكثر المدن جمالاً وعشقاً بالنسبة لنا، هي المدن التي تتأسس من حرث نوستالجيا الخيال.