د. شاكر عجيل الهاشمي
تنقّلَ مفهوم الأدب منذ نشأته بين جملة من المفاهيم والمتغيرات التي تؤدي بشكلٍ أو بآخر وظيفة مفاهيمية أدبية معينة، فابتداءً من معنى التأدب والمأدبة وهو المعنى اللغوي للأدب وانتهاءً بالمفاهيم الاصطلاحية الحديثة لمصطلح الأدب والتي تشير في مجملها إلى الخطابات الإنسانية الإبداعية التي تعكس صورة المجتمع بشكلٍ عام والحياة الخاصة للإنسان بشكل خاص نجد أن الأدب يمر على الدوام بأكثر من طور مفهومي وإجرائي، يكون ذلك التنوع والتبدّل تبعاً للطبيعة المجتمعية وصور الحياة الفكرية التي يؤسسها المجتمع.
ولما كان الأدب انعكاساً للصورة الفعلية للحياة عبر الأنماط والأشكال التعبيرية المعروفة كانت صورته مرتبطة ارتباطاً كلياً بذلك التنميط الذي انعكس على بنية الأدب وأشكاله الخاصة، وظلت تلك القوالب المفاهيمية ملازمة لفكرة الأدب أينما حل، لكن النسق التطويري العالمي للأدب ظل متحكماً بالأساليب والصور والمرجعيات الفكرية الحديثة لذلك أصبح من الضرورة في تتبع هذا التطور البنيوي والتركيبي وإفساح المجال أمام ظهور الأشكال والأساليب الأدبية الجديدة.
إن الثورة المعرفية والتقنية العالمية الحديثة ألقت بظلالها على مختلف صنوف المعارف، وأضحت ثيمة شكلية تميز هذا العصر عن سواه، ولعل الأدب أحد أهم المجالات الإبداعية والمعرفية التي استثمرت فكرة التطور المعرفي والإنساني، ووظفها في بنيته التكوينية والأسلوبية، ويأتي هذا الانفتاح المعرفي من التغير الواضح الذي طرأ على بنية الأداة التعبيرية، فالإنسان اليوم لا يُقصر فهمه وإدراكه على التلقي الكتابي فحسب وإنما ارتقت الذائقة الخاصة لأن تتفاعل مع الوثيقة والصورة والمقطع والرمز على أنها أدوات تعبيرية لا يمكن التخلص من تداخلها وتراكبها مع بنية الأدب، واستثمارها لإطاره العام وسياقاته التعبيرية الحية.
وربما يرى بعض المختصين أن حالة التطبيع التي يعيشها الأدب مع النظم المعرفية والتقنية الجديدة، إنما هي حالة متوترة وسلبية، منطلقين من سؤال رئيس مفاده: هل أصبحت اللغة قاصرة على تحمل عبء الدلالة؟، أو هل أضحت اللغة في مأزق وجودي اليوم بعد تطور أدوات التعبير؟، إن هذه التساؤلات والمخاوف طبيعية جداً ومنطقية جداً لكنها في الوقت نفسه غير واقعية، فهي تحيّد اللغة إلى حدٍّ بعيد، ومثلما عرّف (دي سوسير) اللغة على أنها نظام من الرموز والإشارات، تبقى اللغة امتداداً للوعي السيميائي الحي الذي بثّ إرهاص الجاحظ وأسسه الغربيون مطلع القرن العشرين عندما تأكدوا من حالة التصالح التي تعيشها اللغة بالتزامن مع ظهور أشكال تعبيرية جديدة، تسندها في رفد المعنى وتعزيز قواه وتأثيث بناه الفكرية والأسلوبية والمعرفية.
ليس غريباً القول إن العالم اليوم استحدث أساليب تعبيرية جديدة، فأصبحنا نتحدث بالصور ونتفاهم بالرموز ونتعاطف بما يعرف بـ (السمايلات)، وهذا التسليم فتح الباب أمام دخول الأدب بحالة تكوينية جديدة، أكسبته تسمية جديدة وخواص جديدة وانطباعات جديدة تحدد تراتبية التكوين والتأسيس، وتفسح المجال أمام نوع أدبي جديد يسمى الأدب التفاعلي أو الأدب الرقمي أو الأدب الإليكتروني، ومن المؤكد أن حالة التعريف والتأثيث الفكري لهذا المصطلح مرت بإرباك شديد ولم تتقبل أطراف كثيرة سياقات الأدب الفكري والمعرفي للحياة الأدبية الجديدة المتغيرة، فثمة فريقان متنافران فيما يتعلق بهذا النظام التعبيري الجديد، الفريق الأول، متعصب للأدب اللغوي ولا يقبل بأي شكل من الأشكال دخول الأدب في تعرجات معرفية جديدة ويعد اللغة المفتاح الأول والأخير للمعارف العلمية والإبداعية، من دون الإيمان بالسياقات الفكرية والمعرفية التقنية الحديثة التي أضحت تتداخل مع كل شيء وليس الأدب فحسب، أما الفريق الثاني متصالح مع النظم التعبيرية الجديدة، ومؤيد للفكر المرجعي الفني للأدب من حيث انطلاقه انطلاقة تنويرية جديدة، وينطلق هؤلاء من الواقع الذي تعيشه المجتمعات اليوم عبر انفتاحها الكلي على التقنيات المعرفية الحديثة وأصبحت مواقع التواصل الاجتماعية إطاراً تعريفياً متكاملاً يعطي للحياة بصمة كلية ويميز هذا العصر عما سواه، فلا يضير انتساب الأدب وتداخله مع هذه النظم الجديدة.
وتبقى الرؤية الواقعية هي الحكم والفيصل في الموضوع عندما نجدها تؤمن بالحالة الأدبية الجديدة، وتعزيز من الإطار التعبيري للأدب، فاللغة سلوك إنساني تعبيري أول، لكنه ليس السلوك الأقصر أو الأقل جهداً، فالصورة والرمز والتقانة والفيديو والوثيقة المرئية صنوف تعبيرية جديدة ما تزال تحقق حيزاً معرفياً مهماً في الذائقة التعبيرية العالمية، لذا أصبحنا غير قادرين على الاعتماد على اللغة فحسب أسلوباً تعبيرياً واحداً فلن تصل الأفكار والمعارف والمشاعر والخلجات النفسية الخاصة ما لم يتم التعبير عنها بأساليب تعبيرية رمزية حديثة تعارف عليها المتلقي وأصبحت جزءاً مهماً من جهازه المفاهيمي
والاصطلاحي.
وليس انتهاءً من هذا التسليم المباشر للأدوات والأساليب التعبيرية الحديثة، نجد أنفسنا اليوم ملزمين بالإيمان الكلي بالنظام التعبيري الجديد، فضلاً عن ضرورة التأسيس لنمط أدبي جديد يتعاطى مع الفكر المجتمعي بطريقة واقعية مباشرة من دون الترفّع عن قيمه الحية وأفكاره المعرفية المنوعة، وربما صار من الضرورة في مكان الحديث عمّا بعد الأدب التفاعلي وهو ظهور تيار نقدي يؤمن بهذا الاتجاه الأدبي الجديد، وهو ليس إيماناً مباشراً فحسب قدر كونه مسوغاً شرعياً ووجودياً لفكرة الأدب التفاعلي التي بدأت تتسلل إلى الأقلام الأدبية والفنية بشكل متصاعد، ولا يعني ذلك مطلقاً إلغاء وظيفة اللغة التعبيرية أو الإبداعية بأي شكل من الأشكال إنما محاولتها استثمار المخرجات التقنية الحديثة وإسنادها بأشكال التعبير الحديث التي أضحت جزءاً مهماً من الوعي الجمعي العالمي