حاتم الصكَر
طائرنا الجنائزي.. الدمث
رامبو
لم أكن قد وعيت بما يكفي لفهم رمزية الغراب في الميثولوجيات والمعتقدات الشعبية والشعر والثقافة، حين حاولت أن أبحث صغيراً في التعليم المتوسط عن معنى اسمي في المعجم العربي، بطلب من مدرس العربية. كانت الصدمة اللغوية هائلة لكيان لم يكتمل فكره بعد. الحاتم اسم فاعل، وهو من صفات الغراب التي أنزلت منزلة الاسم، والسبب في ذلك الوصف للغراب، أن العرب تعد نعيقه علامة على الفراق المحتوم.
كانت تلك كارثة حقيقية منحتني إياها اللغة التي سأنفق سنوات طويلة من عمري في دراستها وتدريسها، صدمة جعلتني أكتم اقتران اسمي بإحدى أوصاف الغراب اللغوية، عن أهلي وأصدقائي.
لم أكن أعي وقتها ما يحمله مبدأ الاسم من انعكاسات ميثولوجية، تجعل الفرد في مجتمعاتنا، ينفر من مجرد ذكر اسم الموت أو إبليس أو السرطان، أو الأشياء التي يحسبها نجسةُ. فلا يذكرها إلا مصحوبة بتعليق يجسّد خوفه أو تشاؤمه أو نفوره. بل هو يمجّد أحياناً الأشياء من خلال أسمائها. كانت أمهاتنا الجنوبيات يرفضن رمي فضلات الطعام مع القمامة؛ لوجود الخبز فيها. أو يعلمننا تقبيل قطعة الخبز التي تسقط على الأرض. ومثل ذلك تحريم رمي الورقة التي فيها ذكر الله مثلاً، أو إضفاء المزايا المعتقدية والدينية على الأسماء. فتحتكرها ديانة أو طائفة، وتغدو علامة تشتغل خارج معناها.
لكنْ بأية حال وتعلّة، أيقنت أنه قد ذهبَ اعتدادي بين أقراني بكرم سميِّي حاتم الطائي الأسطوري، ونحرِه لفرسه العزيزة لضيوفه. لم يعد لكل ذلك من معنى إزاء قوة الرواية الغرابية ودلالاتها.
أدمنتُ المراقبة المستمرة لهذا الطائر هيئةً ومعنى. لقد خرج من زمرة الطير؛ ليغدو كائناً رمزيَّ الوجود والدلالة: مسمّاي اللعين الذي ينهره الناس. استقرأتُ وصفهم للسيء من البشر، والجالبين للحظ الرديء بأنهم غربان. والبشرة السمراء كذلك في بعض الأدبيات العنصرية المتعالية، وتأملتها.
تأملت ذلك في صورةٍ ولوحة، ثم عن قرب، وأنا أراه في حقل يعمل جدي وأسرته في ريف الكوت على زراعته. وهم ينهرونه بأقذع الألفاظ.
في عدن أواخر الستينيات حيث عملت مدرساً بعد استقلال الجنوب اليمني عن الاحتلال البريطاني، اعتدتُ رؤيته يمشي بخيلاء، ومن دون خوف، بين الناس. على ساحل خور مكسر حيث تهدر الأمواج في خليج عدن اللاهث جرياناً صوب المحيط الهندي، كنت أراه يتناول وجباته السمكية وبعض الطيور المتأخرة عن المد، على الساحل الذي سكنتُ بعدن العاصمة على بعد أمتار فقط منه. كنتُ أشمُّ رائحة السمك والرطوبة في أرجاء المسكن والشارع، لا سيما في ساعات المد القوي.. وكان الغراب جزءاً رئيسياً من اللوحة.
على شاطئ الكولد مور والتوّاهي كان الناس يسبحون، أو يتجمعون للترفيه، وتناول أطعمتهم في الحدائق الساحلية. كثيراً ما رأيت الغراب يحط خلسة وبسرعة فائقة؛ لينهب طعاماً من بين الحاضرين. ووسط ضحكاتهم أو فزعهم أو نهرهم له، يكون قد أتى على فريسته، وحلَّق ليتناولها شامتاً بهم ،على مقربة منهم.
وهبني الأدب صورة أخرى: بدءاً من وصف إخوان الصفا له بأنه (الكاهن المنبئ بالأنباء.. المتوقي الحذر.. الطوّاف في الديار، المخبر بالكائنات.. المحذّر..). إنه عندهم ليس صانعاً للأقدار، بل المحذر منها. فيستحق بذلك المحبة، لكن الناس استقرت على ذمّه. حتى اقترانه بتعليم الإنسان دفن الميت، فهي واقعة لصالحه. فلولا إرشاده قابيل بعد قتله لأخيه كيفية مواراة الجدث التراب، لما اهتدى لذلك، وظل متوارثاً. لكن الذاكرة قرنته بفعل لم يرتكبه، مع أنه كان يعظ ويعلّم.
ثم مطلع التسعينيات سأكتب عن الغراب فصلاً مطوَّلاً في كتابي (البئر والعسل) الصادر عام 1992 ببغداد. عنونته بـ (الكاهن الأسود) استمداداً من مقتطف إخوان الصفا في رسالة الحيوان والإنسان. كنت هنا أتحرر من عدوى التشاؤم، وعقدة الحاتم في شخصه، لأتأمله في الحكايات والأخبار، في القصائد واللوحات، بدءاً من الدرس الذي قدمه لقابيل، حتى وروده نذير سوء لنوح حين عاد إلى سفينته مبلل الجناح، فخذل توقع أو أمنية نوح والمبحرين معه: أن ينبئهم بوجود يابسة، يرسون عندها بعد الطوفان. وهو ما ستقوم به الحمامة؛ وتحتل رمز السلام والأمان في
الذاكرة.
لكن التعلة بإحسان الغراب وتقديمه رمزاً خيّراً، ستأتي من ملحمة جلجامش. يسرد أوتونبشتم على جلجامش ماحصل عند الطوفان الكبير ونهاياته: فبعد أن يعود السنونو للسفينة؛ لأنه لم يجد يابسة يحط عليها، أرسل أوتونبشتم الغراب، فرأى المياه قد انحسرت،؛ فأكلَ، وحام وحطَّ، ولم يعد. وهنا أطلق موجودات السفينة لتبدأ حياة جدية على الأرض.
حسناً. هذه فضيلة للغراب، سينساها العقل الجمعي المتمسك بصورة الشؤم التي يتناقلها عن الغراب. وسادت رواية سِفر التكوين عن الخلق بعد طوفان نوح، وهي تجعل الغراب نذير استمرار الطوفان؛ لأنه عاد إلى السفينة مبللاً، فيما عادت الحمامة من بعد، وغصن الزيتون في فمها، بشارةً على انحسار المياه.
الشعراء كهنة الخيال، والمخالفة الصورية والرمزية، هم الذين سينصفون الغراب مما يلاحقه في فضائه المنعزل.
فالمعري ينسب له الحكمة، كما يفعل الكاهن أو المنجّم المتنبئ بالأحداث. يهبُ الإنسان أبلغ الدروس: إن الشعوب آيلةٌ إلى صدع. فهي تنهار ويصيبها التصدع. فمزج الشعوب في تفرقها بالبناء إذا ناله الانهيار.
(نبيٌّ من الغربان ليس على شرعِ/ يخبّرنا أن الشعوبّ إلى صدعِ
كأنَّ بفيهِ كاهناً أو مُنجِّما/ يحدثنا عما لقينا من الفجْعِ).
لم ينفِ المعري عن الغراب موهبته في سرد ما لقي البشر من الفجائع. لكنه لا ينسبها إليه أو يجعله حامل أوزارها. وبذا فكّ ازدواجية قراءة وجود الغراب في فضاءين: كونه ينذر ويحذر بالفواجع، او أنه يتسبب بها.
من هناك: سيأتي أدغار ألن بو. وسيراه في قصيدته الشهيرة (الغراب) (زائراً مهيب الطلعة من عصور الورع الخالية). إنه يتبنى حكمة الغراب (القادم من شاطئ الليل) ويسأله: ما اسمك الكريم؟.
مدوَّنات كثيرة هبّت على ذاكرتي كعاصفة، تتردد في فضاء الغراب. عيّنة من انشقاقات الرؤية، واستحواذ التنميط على الأشياء وصفاً واعتقاداً.
انتظرتُ عقوداً من بعد، لأعثر على مستندات تعضد الاسم الذي حسبته مندرجاً في ذلك الفضاء، حتى أسعفني الشعراء بمخالفتهم للسائد عنه.. من هنا ربما صارت صلتي بالشعر ذات رباط، كالنسغ في جسد الشجرة، أو الحبل في سرَّة الوجود.
* لمناسبة قرب صدور الطبعة الثالثة من (البئر والعسل) عن سلسلة (دراسات فكرية) في جامعة الكوفة.