سلامة الصالحي
تعد المدن القديمة والتي لها تاريخ ثري وتراث مهم من المدن النادرة والمهمة على وجه الأرض، وربما لا تتعدى أعدادها الأصابع العشر. هذه المدن التي قامت على ضفاف أنهارها الحضارات وتطورت المعرفة الإنسانيَّة واتسعت مدياتها لتتناقل كل مدن الأرض حكاياتها وتفاصيل الحياة فيها وحتى مفردات اللغة.
التي كان الرحالة يقيمون بها وينقلونها عبر انطباعاتهم عنها الذين نقلوا أخبار هذه المدن العريقة وأساليب الحياة فيها، وتعد بغداد أهم هذه المدن على الأطلاق، ولأنها من الجمال والعراقة الذي لا يوازيها جمال، فقد تعرضت للغزوات والاحتلالات ولم تنعم بالاستقرار لفترة طويلة تحافظ فيها على نسق معين من العمارة والتحديث والجمال، اضافة الى أن دجلة كان يفيض في غير مواسم الحاجة اليه ويجرف البيوت، مخلفا وراءه الأوبئة والأمراض والموتى، والحديث عن بغداد المعاصرة فيه الكثير من الشجن، والذي يتطلب منا وقفة جادة أمام التشويه والقبح الذي طال أحياءها ومرابعها، وانت تنظر الى شوارعها وقد غزت الأبواب أسوارها وتقطعت أوصال البيوت وترى في السور نفسه ما يزيد على أربع أبواب لبيوت أشبه بالدكاكين، مع اختفاء حزين للحدائق التي كانت الميزة الرئيسة لها، هذا الاضطراب والتشوه الذي حدث على وجه بغداد يتطلب من أمانة العاصمة مراقبته والحد منه أو إعادته لسابق عهده عبر قوانين تنظيم البناء والسكن.
فبدلا من تقسيم البيوت الى دكاكين صغيرة، من الممكن إشراك المشتري او الوريث بملكية البيت وعمل بناء متعدد الطوابق على مساحة البناء نفسها السابقة، مع الحفاظ على وجود الحدائق وفرض غطاء القرميد على سقوف البيوت لإعطائها الجمالية والحداثة، وربما يتطلب هذا دعما حكوميا وتسهيل مهمة البناء والتمليك وحتى الخدمات، أما بناء المولات في الأماكن المزدحمة والتي يصعب الوصول اليها، فتلك مشكلة حلت ببغداد وشوهت وجهها مع أفواج السيارات وعوادمها التي لوثت أجواءها، فالمكانات القديمة التي توسعت مساحة البناء فيها وتعدتها الى أطراف بغداد ازدادت معها صعوبة العيش وقسوة الانتقال من مكان الى آخر،
يضاف الى ذلك توسط مصفى الدورة في قلب بغداد نافثا سموم البترول على اجوائها، ومضيفا محنة صحية من التلوث تضاف الى ملايين السيارات دون تخطيط او احترام لصحة الناس، والذي من الممكن نقله بآلياته الى مكان بعيد عن بغداد، فالمترو ووسائل النقل الحديثة، بدت كحلم بعيد لا يمكن أن يتحقق، وسط هذه العشوائية في بناء المدينة والحفاظ على المكان، أما مقتربات نهر دجلة العظيم وتلك الخرائب الممتدة على الجانبين والتي لا ندري أي مالك سطى على ملكيتها وهي من محرمات النهر فأنها تعطي ذلك المنظر البائس لضفاف النهر والذي يجب أن يكون مساحة جمالية للمدينة، من حيث البناء والمرافق السياحية وأسطول يخوت يجمل بغداد التي كثر البؤس ومناظره فيها، يضاف الى تجاوز غير مسبوق على مناطق في قلب المدينة، من دون محاسبة ومن دون قرار يزيل هذه التجاوزات للأبد وإزالة الخرائب التي تقف أمامها أحدث موديلات السيارات، لقد أسهم بتخريب المدينة ليس الحروب وحدها، بل الناس التي لا يردعها رادع، وتصرفت على هواها في تخريب مدينة تعد من مدن الأحلام والجمال الذي يعيش في مخيلة كثير من الشعوب، إضافة الى إزالة نصب مهمة للمدينة تعطي الطابع الحضاري، شيء لا يشبه شيئا، اضافة الى قلة المتاحف ودور العرض التشكيلي التي هي ميزة من ميزات بلد الريادة والابداع لهذا البلد، فوازارة الثقافة احتلت المتحف الوطني للأعمال التشكيلية العراقية التي لا تقدر بثمن وتمَّ الاستيلاء عليها من قبل دول اخرى، واستغلال مبنى وزارة الثقافة لمجلس محافظة بغداد الفائض عن الحاجة كمجالس محافظات ليس في بغداد وحدها بل في كل مدن العراق، فهناك محافظة وامانة عاصمة وهذا يكفي.
والغاء المجالس الذي صار مطلبا شعبيا، يتطلب عودة الوزارة لمكانها واخلاء مركز الفنون وعودة المتحف في مركز المدينة، التي هي بحاجة ماسة له، وتعميره واعادته لبهائه السابق، إضافة الى الشوارع العريقة التي تطل منها واجهات البنايات الخربة، والتي تحتاج الى تجميل وترميم يعيد الى المدينة حياتها وصباها دون أن تقبح بالواجهات الالمنيوم التي لا تلائم بيئة البلاد ومعدلات الحرارة المرتفعة، نحتاج الى أن تتولى أمانة العاصمة إعادة جماليات المدينة والتأكيد على الزراعة وإزالة الأشجار المضرة بالبنى التحتية وجلب نباتات ملائمة للبيئة، وفرض وضع الأصص الكبيرة والمتسلقات الخضراء، التي تزيل القبح الذي رافق أسلاك المولدات التي تعج أصواتها المزعجة أينما تولي وجهك في شوارع المدينة.
وان يشترك الفنانون والمثقفون في وضع اقتراحات لاعادة جمال المدينة والاخذ بها دون أن تبقى حبرا على ورق، واقتراح بعمل مسابقة بكل حي يكون الأنظف والأجمل، إضافة الى البنايات الجميلة كتشجيع وتحفيز على التنافس الخيري بين الناس في جعل عاصمتنا العزيزة مثلما نحب ونحلم، ببغداد ألف ليلة وليلة.