البصرة: صفاء ذياب
منذ بدايات الكتابات النقدية في العراق، ما بعد مرحلة الرصافي والزهاوي اللذين افتتحا النقد العلمي بطرائق مختلفة، مرت الكتابة النقدية في العراق بمراحل عدة، رسمت خطوطها أسماء مهمة مثل جعفر الخليلي والدكتور علي جواد الطاهر ونازك الملائكة، ليتبعهم جيل آخر كان جلهم من الأكاديميين والبعض الآخر كان خارج المؤسسة الأكاديمية، لكنهم مع هذا تمسكوا بالشروط العلمية للنقد الأدبي، ليس ابتداء بالدكتور عناد غزوان وليس انتهاء بفاضل ثامر
غير هذا الجيل الوسط كانت مرحلة مهمة لظهور جيل حقيقي يقف على رأسهم الدكتور عبد الله إبراهيم وسعيد الغانمي والدكتور ناظم عودة والدكتور علي حاكم صالح
وغيرهم الكثير.
هذه المراحل جعلت من النقد العراقي مدرسة مهمّة على المستوى العربي، وعلى الرغم من وجود هذه الأسماء كان هناك نقاد ثانويون لم يقدّموا أعمالاً حقيقية، بل كان عملهم منصبَّاً على متابعة النتاجات الحديثة وبعض الدراسات التي لم تؤثر في مسيرة النقدية العراقية، استمرت الكتابة النقدية بهذا الشكل حتى تحوّل الكثير من الكتّاب ما بعد العام 2003 إلى نقّاد، فلم يعد الكاتب يصدر نتاجه الأدبي فحسب، بل كان ينظّر له ولغيره من الكتّاب، حتى ظهر جيل جديد ابتعد تماماً عن علم النقد وصار يكتب على هواه من دون أي مرجعيات علمية أو فكرية، إلى درجة أنَّ أحد النقّاد عاب على الأكاديميين إحالة بعض تنصيصاتهم إلى مفكرين ونقاد معروفين ومؤسسين للنظرية الأدبية.
فُتِح باب النقد في العراق على مصراعيه منذ أكثر من عشر سنوات، حتى عدّ الأمر موضة عند الكثير، فأصدر كتّاب قصة ورواية وشعراء كتباً نقدية لا تستند إلى أي مرجعيات أو أسس علمية تمكّننا من تسمية ما ينشرونه نقداً، فما الذي حصل للعقل النقدي العراقي؟.
سطحية المعرفة
يرى الدكتور عبد الستار جبر أن الكثير من الكتابات النقدية تتسم بالسطحية أو الغموض على مستوى الأفكار، وبالعشوائيّة في تناولها، واضطرابها في ترتيب سياقات الكلام التي تعبّر فيها.
ويرجع الأسدي أسباب هذا إلى هبوط المستوى العلمي للجامعات العراقيّة في ضبط كتابة البحث العلمي في ما يتّصل بالكتابة النّقديّة؛ حتّى على مستوى كتابة مقالٍ نقديٍّ بسيطٍ.
وهنا، تكمن إحدى أُسس الخلل البنيويّ في الدّراسة العلميّة في الأقسام العلميّة ذات الصّلة كأقسام الّلغة العربيّة، منذ المراحل الأوّليّة إلى العليا؛ في دراسة الماجستير والدّكتوراه، في كونها لا تمكِّن الطّلاب الذين يمثّلون نواةً لنقّادٍ أو باحثين مستقبليّين من تحليل النّصوص الأدبيّة، على نحوٍ سليمٍ.
ولهذا أسبابٌ عدّة، في مقدمتها ضعف المستوى العلمي لعددٍ لا يستهان به من الأساتذة، وفقر طرائق التّدريس المتّبعة في إيصال المادّة، وعدم الجديّة والمسؤوليّة الصّارمة في مراقبة البحوث المقدّمة لهم من الطّلاب، ممّا سمح بشيوع ظواهر سلبيّة كالاعتماد المجّاني على الأنترنت، والكتابة الجاهزة بطريقة “الكوبي بيست” في تناول الاقتباسات، ومن مصادر بعضها فيه مشكلات علميّة أصلاً.
فضلا عن ذيوع ظاهرة الزّبائنيّة بين بعض الأساتذة ومكاتب بيع البحوث وكتابتها حسب الطّلب للطّلاب.
ويؤكّد الأسدي أن غياب الأكاديمية أدّى إلى غياب متابعة ما يكتب ونقده، وهذا الغياب أسهم بشيوع كتاباتٍ هزيلةٍ، لم تُقيّم وتُناقش لتوصل رسالةً لمن كتبها أنّ النّقد ليست مهنةَ من لا مهنة له، إنّما هو كتابةٌ علميّةٌ منضبطةٌ لا تُسيء إلى الذّوق النّقدي فحسب، بل تُسهم في تدني المستوى المعرفي والثّقافي، وتحوّل النّصوص الأدبيّة إلى ركامٍ متشظٍّ من الرؤى النّقديّة المضطربة، أو تضعها في خانة التّمجيد السّطحي من دون أن تحدِّد بدّقةٍ قيمتها أو جماليّاتها الشّكليّة
والمضمونيّة.
رؤية مضببة
ويضيف الدكتور محمد عبد الحسين هويدي على كلام الأسدي، مبيناً أن جدل النقد بين الأكاديمية والانطباعية أو لنقل الكتابات الحرّة غير الخاضعة لمنهج ما، هي ظاهرة تستحق التوقف وتطرح أسئلة مهمة يجب التوقف عندها ملياً، فالحالة المثالية للنقد الأكاديمي أنّه نقد منهجي يعتمد على تراكم المعارف واعتماد السياقات العلمية المحددة، وهذا النقد يقوم على دعامتين هما (الباحث والمنهج) وأي خلل في واحد منهما يؤدّي إلى الانهيار؛ فنقص أدوات الباحث كافتقاره إلى الموهبة في تذوق الأدب أو فقدان الرؤية الصحيحة يجعل نتاجه تجميعاً لا يتخطّى رصف الآراء بصورة ميكانيكية، كما أن عدم نضج المنهج النقدي أو استقراره أو عجز الكتب المترجمة عن إيصاله بصورة صحيحة وواضحة يؤدّي إلى التشتت وتضبيب الرؤية، ومن ثم فشل المنهج والعملية النقدية برمتها، أما الكتابات الحرة أو لنقل (نقد الموضة) كما تسمّى أحيانا فهي علاوة على انعدام ضوابطها ومنطلقاتها المعرفية، فإنَّها لا تتعدى المحاولات الإنشائية عديمة القيمة ومبعثها الأساس العلاقات الشخصية في تمجيد الشخصيات الأدبية أو تصفية الحسابات معها، وهي على الرغم من زعم كتّابها اعتمادهم على (الموهبة) إلا أنّنا لا نستطيع عدها منجزاً معرفياً بأي حال من الأحوال.
مهنة النقد
وتشير الدكتورة رائدة العامري إلى أنواع النقد عموماً، فهو يتجلّى في ثلاثة مظاهر مميزة: (الأول) منها نقد إبداعي يسعى الناقد فيه إلى تقديم كل ما هو جديد على المستوى النظري أو على المستوى التطبيقي، ويكون صاحب نظرية ومنهج ورؤية.
ولا يمكن الوصول إليه إلّا بعد أن تكتمل الرؤيا الفنية بتطوير الذائقة النقدية عنده.
والثاني: نقد يلاحق النص ولا يبدع، بل يحاول كشف الجمال انطلاقاً من مرجعية نقدية معيّنة تتطوّر أو تتغيّر أو تتبدّل بحسب النص المختار.
وهناك (مظهر آخر) يتجلّى في الجانب النظري ولا ينظر للنص نظرة شاملة، بل عبر نماذج مختارة، أي تهتم بجزئية النص.
وهذا (المظهر الثالث) شائع عندنا ولا سيما في النقد الأكاديمي أو البحوث الجامعية.
وتكمل العامري كلامها: بمتابعة المنتج النقدي، نجد كثيراً من التقاطعات في قيادة الإبداع والاتّباع، إذ إن الكتب النقدية عبارة عن ركام من التقليد، لأن الموضوعات خالية من عنصر الاكتشاف والإبداع أيضاً.
فالمشكلة ليست بالناقد، بل بالنقد الذي اتجه اتجاهات ابتعد فيها عن البعد الجمالي الذي يرتبط بالاكتشاف، الذي بدأ يتجه إلى البعد القيمي للنص، وإلى القضايا الفكرية التي يتضمّنها النص؛ فأصبح النقد يهتم بالتداولية والنقد الثقافي، وبالهوية، وبالذات والآخر.
أي يكاد يكون بعداً فكرياً، وليس جمالياً، ولا فنياً.
وفي هذه الموضوعات مزية سهلة يمكن الكتابة فيها بسهولة.
فالمشهد الحالي للنقد يظهر أنّه أصبح مهنة ولا سيما النقد الصحفي، إذ نراه عبارة عن مهنة يتحدّث فيها عن أمور بعيدة عن النص تماماً، وإنما يخص قضية فكرية داخل النص.
سياقات تجهيل
الدكتور لؤي خزعل جبر يبين أن الكثير من الكتابات في العراق أصبحت موضَة، ليس فقط النقديَّة، بل حتى الإبداعيَّة (الرواية والقصة والمسرحية والشعر)، وأغلَب الكتابات النفسيَّة والاجتماعية والسياسيَّة والتاريخيَّة لا تتصل بالعِلم، وما هي إلّا ثرثرات شعبويَّة، غير قائِمَة على خلفيَّة معرفيَّة عميقة ودقيقة، وهذه ظاهرة تستحق التوقُّف.
وهي ظاهرة سوسيوثقافيَّة، تشكَّلَت نتيجة عوامِل متفاعِلَة عِدَّة، من قبيل الضعف الهائِل في الدرس الأكاديمي، إذ لم يعد يقدّم المعرفة الحقيقيَّة، وتحوَّل- بفعل السياسات السلطويَّة والسياقات التجهيليَّة- إلى ممارسة بروتوكوليَّة تلقينيَّة، وبذلك يتخرّج الطالِب وهو لا يعرِف أبجديات تخصّصه، وبعد زمن يتحوَّل هذا الطالِب إلى أستاذ وباحث، ليُديم دورة الخراب والتدهور الأكاديمي، فضلاً عن شيوع الثقافة الاستهلاكيَّة التسويقيَّة، إذ يتحوّل كل شيء إلى مادة استعماليَّة، لا تكمن قيمته في ذاته، بل في ما يجلبه من استحسانات سطحيَّة. وبالنسبة للنقد فهو أحد تجليّات ذلك، لا سيّما أنَّ الأدب بذاته أصبح موضَة، بدليل كثرة منتجه وكثرة تلقّيه، من جانب، ومن جانِب آخر انفتاح حدوده المفاهيمية لدرجة تتيح لكلِّ من هبَّ ودبّ أن يكتب فيه من دون أن يكتشف أحد بساطة ما يكتبه، وانعدام صلته بالفلسفات والنظريات والتقنيات النقديَّة الحقيقيَّة.
تخبّط وتكرار
ويؤكّد الدكتور محمد جواد البدراني أن النقد ليس بالمهمّة السهلة المتيسرة للجميع، فالنقد علم وموهبة وخبرة ومراس ويحتاج إلى حصيلة ثقافية وإلمام كافٍ بالمناهج النقدية والأسس الجمالية للفنون، ومعرفة وافرة بأساليب اللغة واستخداماتها وجرأة على التحليل والموازنة ودقّة وتتبّع تطوّرات الفنون وموضوعية في مواجهة النصوص تنأى عن المجاملة والتملّق والمحاباة. غير أنّنا نجد اليوم في الوسط الثقافي استسهالاً للأمر إلى حدِّ الإسفاف.
فكثير من المدوّنين على صفحات التواصل يطلقون على أنفسهم صفة الناقد وجل من يحصل على شهادة عليا بتخصّص أدبي أو نقدي يطلق على نفسه تلك الصفة.
مضيفاً: لست مبالغاً إذا قلت إنَّ النقد عندنا يمر بأزمة حقيقية، فالكتابات (النقدية) تعاني من التخبّط والتكرار الممل والاتكاء على دراسات سابقة، فضلاً عن قسر العمل الأدبي ولَيْ عنقه لحشره في المنهج النقدي المراد التحليل على وفقه. في حين إنَّ النقد الحقيقي علم ومعرفة وموهبة وخبرة وتجديد نفتقر له أشد الافتقار.
اشتراطات الكتابة
ويختتم الدكتور كامل فرعون موضوعنا موضحاً أن الجنس الكتابي يمنح لمن يمارسه هويّة دالّة، فهناك شعراء وروائيون وكتّاب قصة ونقّاد، وهذا الفرز الأدبي ضرورة لها مبرراتها الإبداعية، لكن من يجد لديه الإمكانية في التنوّع يستطيع الانزياح لحقول مجاورة، وهو ما يؤكّده المنجز الثقافي الذي ساد القرن العشرين، فقد توزّع نتاج قلّة من الأدباء بين الترجمة والرواية والنقد والرسم وغيرها وحققوا بهذا الاختلاف توازناً من حيث الشرط الإبداعي في الكتابة، الأمر الذي لم يجد صداه في مرحلة ما بعد 2003، إذ اختلَّ ميزان العلاقة بين الصفة التي يتمتّع بها الكاتب وطبيعة ممارسته الأدبية، فضلاً عن غياب الرقيب لدى كثير من دور النشر، وهو عامل مهمّ في فحص ومعاينة أي نتاج والتحقق من طبيعته الأجناسية، وهل يحملها بجدارة أم مجرّد عنوان لا غير، إلّا أنَّ القدرة في التنوّع وغياب الرقابة ليس وحدهما وراء السعي المحموم في كتابة الرواية أو النقد، بل يتحمل من يدعم الكاتب - أفراداً أم مؤسسات- ويوهمه بما يكتب، وهذه الطامة الكبرى التي لا أعرف كيف ستخرج منها ثقافتنا الحاضرة، التي قد تحتاج إلى عنف ثقافي يجتث الطارئ والدخيل وغير المؤهّل والموهوم، لتأسّس ثقافة رصينة تعتمد على احترام خصوصية كل مجال إبداعي، والانفتاح أو التنوّع في الكتابة يحتاج إلى وعي معرفي تحدّده اشتراطات الجنس.