د.عبد الخالق حسن
لم تحظَ لغةٌ، أو لسانٌ بحسب متبنيات اللسانيات السوسيرية، بالانشغال والاهتمام والبحث في أدق تفاصيلها، مثلما حصل مع اللغة العربية. ابتداءً كانت لغتنا وعاءً للشعر الذي كانت مرآة العرب في حياتهم ومواقفهم وتاريخهم، ثم لاحقاً احتضنت بين حروفها أهم نص في حياة العرب، وهو النص القرآني، لتتحول أهميتها من المستوى الاجتماعي اليومي إلى مرتبة القداسة، التي تنظم حياة العربي من ميلاده وحتى بعد مماته بحكم هذا الارتباط بالنصوص العبادية. وهي بين هذه الانتقالات والتحولات، لم تفقد أيَّاً من عناصر تأثيرها، بل كانت تستمر في الاخضرار حتى في أوقات الجدب الحضاري للعرب.
وبرغم الجدار الذي أحاطها به بعض حراسها، استمرت لغتنا في مد جذورها وأغصانها بعيدا عن هذا الجدار، الذي انبنى بذريعة الحفاظ على كينونة اللغة وذاتها وملامحها من التهشم. ربما قد نجد عذراً لمن عاش في عصور التدوين الأولى، حين تشددوا في التعامل مع المنطوق والمقروء منها، لكن لا عذرَ لمعتذرٍ بعد أن استقر هيكل اللغة وأساسها ليتعامل بالمنطق نفسه، الذي جعل لغوياً كبيراً مثل أبي عمرو بن العلاء يتحرج ويمتنع عن الاحتجاج بأي بيت من أبيات شعر الإسلاميين في زمن الاحتجاج، كونه كان لا يثق بلسانهم مخافة أن يكون قد شابته شائبة من شوائب اللحن والخطأ اللغوي.
وتحت هذا المعنى، أي سلامة اللغة وسلامة معانيها، عانى كثيرٌ من الشعراء من سطوة الرقباء اللغويين الذين كانوا يحصون على الشاعر خروقاته الإبداعية في شعره ويضعونها تحت عنوان ما لا يجوز. مع أن الشعر (موقف اضطرار) مثلما قال (ابن جني) في كتاب الخصائص، والذي كان يرى أيضاً أنَّ حصان الشاعر جامحٌ لا يتردد ولا يستطيع الشاعر إيقافه حين ينزل عليه وحي الشعر. والحصان هنا كناية عن الحالة الشعرية. وليت كل حرّاس اللغة كانوا بمثل تسامح ابن جني.
إنَّ اللغة، أي لغة، تزدهر وتنمو بالاستعمال والتوسع، وتتجمد وتتكلس وتتجمد حين يضيق استعمالها. لهذا لا يجب أن تستمر فكرة بناء الجدران حول لغتنا، بل إن تركها حرةً طائرةً هو ما يجعلها أكثر تأثيراً وانتشاراً. مثلها في ذلك مثل المال. فاستثمار المال هو الذي ينميه، ولا ينمو مالٌ محبوسٌ في صندوق.
المجد للغتنا، ونحن نحتفي بيومها الذي ستقف فيه كل اللغات لتحيتها. المجد للغة كل الحروف وليس الضاد فقط.
* باحث وأكاديمي