إسكندر حبش*
لم تكن إيتيل عدنان مشهدا عابرا في الثقافة العربية منذ خمسينيات القرن الماضي، على الرغم من أنها لم تكتب باللغة العربية (وإن كانت تجيد قراءتها والتحدث بها على شيء من الصعوبة). صحيح أنها ولدت على مفترق لغات عديدة، وأمكنة متنوعة، إلا أنها أجادت لغتين كتبت بهما: الفرنسية والإنكليزية.
من يعرف سيرة إيتيل، سيجد أن بداياتها في الكتابة كانت بالفرنسية ولاحقا كتبت بالإنكليزية منذ أن أقامت في كاليفورنيا بالولايات المتحدة الأميركية. لكن على الرغم من هاتين اللغتين، والثقافتين، إلا أنها بقيت مشدودة إلى ثقافتها الأم: العربية. وأقول «الأم»، لأنها لم تعد نفسها يوما بعيدة أو بمنأى عمّا يجري في العالم العربي من أحداث سياسية واجتماعية وثقافية. كانت تعد نفسها كاتبة عربية بالدرجة الأولى، مثلما أسرّت لي ذات يوم، بل حتى أنها ذهبت إلى أكثر من ذلك. قالت لي: «أكره الفرنكوفونية لأنها أبعدتني عن أصولي».
لم تختر إيتيل عدنان الفرنكوفونية، أي الكتابة بالفرنسية، بل هناك العديد من العوامل التي جعلتها تولد في قلب هذه اللغة، بمعنى أن سياق أسرتها الاجتماعي المتنوع فرض عليها ذلك.
بداية، أمها اليونانية (المسيحية) التي ولدت في «سميرنا» (تركيا) ووالدها السوري (المسلم)، وقد عاشت الأسرة في بيروت حيث ولدت إيتيل. بيروت في تلك الفترة، في منتصف عشرينيات القرن الماضي، كانت لا تزال تحت الانتداب الفرنسي، وكانت الفرنسية هي اللغة السائدة في المدارس وفي «المجتمع الراقي» (إن جاز القول). بمعنى آخر كانت تجيد اليونانية والتركية، إلا أن الشرط الاجتماعي فرض عليها التحدث بالفرنسية لتختارها كلغة أولى للكتابة.
من هذه الثقافات واللغات، كتبت إيتيل. لذلك لا يمكن لنا فهم أدبها (وفنها بالطبع)، إلا إذا ربطناه بكلّ هذه النوافذ التي أطلت منها على القراءة وعلى دراسة الفلسفة وعلى الصحافة وعلى الفن التشكيلي.
كانت إيتيل مجموعة أشخاص في شخص واحد. ومجموعة لغات في شخص واحد. حتى أنها بقيت لأيامها الأخيرة تعيش في أمكنة عديدة: باريس وكاليفورنيا وبيروت وبلدة «دير القمر» (لبنان) حيث كانت تقضي جزءا من فصل الصيف.
كلّ هذا التنوع أتاح لإيتيل لا ثقافة واسعة وحسب، بل أيضا أتاح لها اتساعا في الرؤية. لم تنغلق داخل رؤية واحدة، بل بقيت تعيد طرح الأسئلة على نفسها، طيلة حياتها، ومن ثم طرحت أسئلة على كتاباتها وفنها. لكن إحدى خاصيات إيتيل عدنان المميزة، أنها بقيت متابعة لما يجري، لم تتوقف عند من سبقها، بل على العكس تماما: كانت الأجيال الشابة تثير اهتمامها وتحاول أن تقترب منها وأن تناقشها وأن تستمع إليها. كانت تجد – وغالبا ما صرحت بذلك – أنه لا يمكن للثقافة أن تتوقف عند نقطة معينة، بل هي ذلك النهر الهيراقليطي (نسبة إلى هيراقليط، الفيلسوف الإغريقي) الذي يتبدل كلّ لحظة، على الرغم من بقائه في مجراه الذي حفره منذ آلاف السنين.
بين الشعر والرواية، كانت الصحافة التي عملت بها كما الرسم. أسست الملحق الثقافي لجريدة «الصفاء» (في لبنان، بالفرنسية) وقد أصرت على أن تكتب في كثير من الأحيان افتتاحيات سياسية لهذا الملحق، كأنها بذلك تريد التأكيد على دور الكاتب في انخراطه بالحياة السياسية والاجتماعية لا بكونه «صانع كلمات فقط»، بل إنه عضو فاعل ويجب أن يؤكد حضوره في أحداث بلده، عبر رأيه.
أما الرسم، فكان عندها بمثابة قصيدة أخرى. قصيدة شفافة، عبر ألوانها الناعمة، عبر خطوطها غير الحادة، وكأنها كانت تهمس باللون بحالات وجد لا يعرفها إلا من اختبر كلّ شيء. غالبا ما تختلط الكتابة بالرسم عند إيتيل، ما أقصده أنها تكتب باللون، وترسم بالكلمات، وما معنى ذلك، إلا تشييد مكان إقامة، عبر تنوع الأساليب. ربما كانت تجسد ذاك القول بأن الإنسان بحاجة أحيانا إلى عدة أنواع ليعبر من خلالها.
لكن الدرس الأهم الذي تعلمنا إيّاه إيتيل عدنان تواضعها الشديد.
لم تكن الثقافة عندها وسيلة للانتفاخ والتشاوف على الآخرين. بل الثقافة هي التواضع لمحاولة الفهم، فهم الحياة ربما، فهم ما يحيط بنا، وفهم أنفسنا بالدرجة الأولى. أنجحنا في ذلك أم لم ننجح، فهذا ليس المهم. المهم أن نحاول وأن نصغي إلى أعماقنا. أن نكتب أعماقنا من دون أي مواربة أو خوف.
مع رحيل إيتيل عدنان، ثمة جزء من ثقافتنا يرحل. لكن لا يختفي. يكفي أن نعود إليه لنقرأه، لنشاهده، لنتذكر كم أنها كانت تسبق زمنها بأميال ضوئية.
* كاتب لبناني