ديالى- واع- ثائر هادي
اختارت تحمل المسؤولية منذ نعومة أظفارها، فأصبحت العمود الفقري للعمل مع والدها، ثم لجأت لمساعدته في عمله بإصرار، محبة وعاشقة وملهمة لوالدها الذي رفض لحبيبته هذا المجال.
بكفها الناعم الصغير استطاعت جر العجينة وارغامها على أن تكون طائعة لها، فتعاملت مع قوة العجن ولهيب النار وأصرت أن تتحمل حتى اكتسبت المهارة وكسرت بطفولتها حاجز التقاليد، فهي امرأة بألف رجل.
أجرت وكالة الأنباء العراقية (واع)، حوارا مع الطفلة سما عبد الرزاق، التي اختارت ترك حضن أمها والبيت الآمن والخروج مع والدها للعمل، لتقاسمه عبء الحياة في أحد المخابز بمحافظة ديالى.
وقالت بابتسامة بريئة ممزوجة بالاستحياء والفخر: "عمري الآن 13 سنة، أحببت العمل في المخبز، وكان كل همي مساعدة أبي لأنه وحيد، وليس لدي أخوة ليساعدوه في العمل، اضافة إلى توفير أجرة العامل التي يدفعها له، لجمعها لدفع ايجار البيت الذي نسكنه".
وتابعت: "في البداية كان أبي يرفض أن أعمل معه خوفا علي من التنور، ووالدتي كانت تقول لي الدراسة أهم من العمل، ولكنني استطعت أن أوفق بين الاثنين، اي عندما يكون دوامي في المدرسة صباحا أعود من المدرسة وأكمل واجبي المدرسي، وأذهب بعدها الى المخبز".
تجازوت الصعاب وذللتها بالاصرار، فتحدت لهيب النار، لتثبت أنها أقوى من إلسنتها، فلن تخيفها بل أخافتها، ولن تبالي بضغوطات الاهل والصديقات، فأكملت مسيرتها بثبات، فهي مصرة على عدم ترك ابيها وحيداً يتحمل مشقة المعيشة بمفرده.
وأضافت: "في البداية كان الامر صعبا علي وأصبت بحروق بسيطة، وكان أبي يأخذني الى البيت ويقول لا تأتي الى المخبز، ولكنني أعود مرة اخرى للعمل معه، وايضا صديقاتي في المدرسة يقلن، لا تعملي في المخبز وكنت أقول يجب أن اساعد أبي لأنه وحيد، وتعلمت العجن و"الشناك" والخبز بفترة قصيرة، وتعلمت المعاملة مع الناس واستعمال السجلات والبيع".
وأوضحت: "باستطاعتي الان خبز أي كمية تطلب مني، وفي أوقات العطل أعمل في المخبز مدة تصل الى 18 ساعة متواصلة، وحتى اذا كان والدي مشغولا اومريضا، أنا أدير المخبز لوحدي، وأعد العجين وأخبزه وأبيعه للزبائن".
لم تقف سما عند حدود مساعدة أبيها فقط، بل تعدت ذلك بحلم توسيع عمله، محاولة أن تحققه، أشارت إلى أن "عدد بنات المنطقة والمناطق المجاورة ازداد بالتعامل مع مخبزنا بعد أن علمن أنني أعمل مع والدي، ولدي حلم أن أكمل دراستي وأصبح مدرسة في المستقبل، أضافة إلى تطوير مهنة المخبز، وممكن أن افتتح مخابز اخرى لأنني تعلمت جميع اسرار هذه المهنة وليس من الصعب العمل بها".
واختتمت بالقول: "أنا أنصح جميع البنات اللاتي ليس لديهن اخوة اولاد، أن يساعدن أباءهن وعدم تركهم في مسؤولية اعالة العائلة لوحدهم".
بدوره، أوضح والد سما عبد الرزاق: "بدأت العمل في المهنة من عام 2006 عاملا بسيطا وبعد تعلم المهنة جيدا فتحت مخبزا، وكانت سما تتردد على المخبز وتحاول التعلم، ولأننا (بابة عرب)، نمنع خروج الفتاة من البيت ومزاولة اعمال خاصة بالرجال، رفضت بالبداية وامها كانت ترفض عملها في المخبز، لأن دراستها اهم من العمل، ولكن سما كانت تصر على مساعدتي في المخبز، لذلك تركتها تعمل معي، حيث كان عمرها انذاك ١٠ سنوات".
وأكمل: "ابنتي بعد فترة وجيزة تعلمت الخبازة وأصبحت ماهرة وسريعة في عملها، وعمرها 10 أعوام استطاعت أن تسد مكاني عندما أكون مشغولا او مريضا ولوحدها".
شجاعة فتاة
واستدرك، بالقول: "كانت سما ترفض جلب عامل لمساعدتي، فاختارت هي أن تساعدني وتتحمل ثقل الحياة صغيرة".
غمرت الدموع عينيه، معلنة عن فخر، فابتلع ريقه بصعوبة، وأحنى رأسه، وتشابكت اصابعه بقوة، ليكمل بالقول: "ابنتي سما فتاة طيبة ومجتهدة، وهمها الاول مساعدتي، فهي تحاول أن تشعرني أنني لست وحدي في اعالة العائلة، رغم صغر سنها تعمل معي منذ 3 سنوات".
وامتدح ابو سما، ما تنتجه كفوف ابنته الناعمة، أن "خبز ابنتي لذيذ، بشهادة الزبائن الذين يطلبون خبزة سما بالاسم، حيث إن ضغط العمل عليها كبير لكن ابنتي لا تتذمر من العمل رغم حرارة الجو في الصيف".
أبو سما، يحاول مخادعة حرارة الصيف وتلطيف شدته على ابنته بمبردة خاصة لها لتخفيف حرارة الصيف الممزوجة بحرارة التنور الذي يخرج منه الخبز، "أنا أخاف على ابنتي من حرارة الصيف داخل المخبز، وخوفا عليها كنت أضع مبردة بالقرب منها لتخفيف الحرارة عليها، حيث سما كانت تعطيني اندفاعا قويا وشجاعة ورغبة في العمل، وهي معينة لي بمعنى الكلمة، والرزق تضاعف بعد عمل سما معي".
مهند الدليمي أحد الزبائن، الذي رأيناه متحمل عناء الطابور، منتظراً دوره للحصول على الخبز، يقول "أنا من سكنة المنطقة وحينما رأيت سما في المخبز تعمل، قلت لها يجب أن تدرسي ولا تعملي هنا، فقالت لي أنا أدرس وأعمل في نفس الوقت ولن أترك دراستي".
وأضاف بدهشة "علمت بعدها أنها تريد أن تساعد والدها وتحسن من حالتهم المعيشية، لذلك تقبلنا الفكرة وأصبح جميع أهالي المنطقة يتعاملون مع مخبزهم، بسبب وجود سما وخبزها الطيب بذات الوقت".
وعبر عن أمله، أن "تكمل سما دراستها وحصولها على منحة دراسية، لأنها شجاعة ولديها ارادة قوية وشعور بالمسؤولية تجاه عائلتها، بالرغم من صغر سنها".
وتابع "كلما سألتها عن الدراسة تقول سأكمل دراستي، ولن أترك أبي لوحده".
زبونة أخرى هي الحاجة أم باسم تقول: "نحن نتعامل مع مخبز أبي سما لأن سما تعمل به، وتعاملها جميل، وخبزتها طيبة، والكثير من نساء وبنات المنطقة لا يترددن بالقدوم الى المخبز، لأن سما تعمل به، اما مدرسات سما بعد علمهن بأنها تخبز في مخبز والدها وهي طالبة مجتهدة في المدرسة قمن بتشجيعها ودعمها معنويا، شرط أن لا يؤثر ذلك على دراستها ومستواها الدراسي".
وأكدن، أنه "بعد مرور الوقت تأكد لنا، أنها استطاعت التوفيق بين عملها ودراستها، لذلك نتمنى لها أن تحقيق احلامها".