أ.د.سعد التميمي
تزدحم في ديوان الشاعر قاسم محمد مجيد الأخير (مرآة ونصف وجه) الأسئلة الوجودية التي تعكس قلق الشاعر وحيرته ووعيه العميق بالواقع وتفاصيله، وقد انعكس ذلك في تجربة مغايرة ظهرت بشكل واضح في اللغة وتشكيل الصورة ودلالاتها الموحية المرتبطة برؤى كونية والهوية
الإنسانية.
ويتضح ذلك بدءًا بالعنوان وتصميم الغلاف، فالعنوان يقوم على تقابل بين دلالة (المرآة) المتمثلة بالوضوح والانعكاس، ودلالة (نصف وجه) المتمثلة بالغموض وعدم الوضوح، وهذا ما ترجمه مصمم الغلاف الذي اختار صورة الشاعر المظللة لتغييب بعض ملاح الوجه، وهو ما نجده في الاسئلة التي يثيرها الشاعر في قصائد الديوان معبرا من خلال ذلك رفضه لكثير من التحولات التي تطرأ على الواقع وتقيد حريته، فضلا عن عنوانات القصائد التي تهيمن عليها هذه النزعة التي تعكس اهتمام الشاعر بما تحمله التراكيب والصور من المأساة الإنسانية التي يكون في الغالب الشاعر نفسه بطلها، ليتناوب البعد الوجودي مع البعد الجمالي في الحضور
والغياب.
وينبثق ذلك من قلب الأزمة التي تحيط بالشاعر وتنفجر في صور يعلو فيها صوت الشاعر المعترض على ما يتعرض له الانسان الباحث عن حريته ومستقبله ووجوده، لتتحول ذات الشاعر الى ذات مطلقة تعبر عن هواجس وأسئلة القلق الوجودي للإنسان بشكل مطلق، اذ يستفز الشاعر المتلقي بالعتبة التي تقوم في الغالب على بساطة اللغة وعمق الدلالة، وينجح في نقل قلقه من خلال تلوين الخطاب بالحجاج الذي يقصد به اقناع المتلقي والثورة التي تشجع المتلقي على الانتفاضة ورفض القيود، ليمنح المتلقي فرصة للدخول في عالم القصيدة وتقصي متاهاتها للكشف عن بعدها الرّسالي والجمالي، وقد نجح الشاعر في خلخلة الواقع والكشف عن مساوئه، من خلال سرد المواقف، وهذا ما نجده في قصيدة (الكتابة سرا) التي يقول في جانب منها:
أحيانا أضجر من نفسي
وأنثر الرماد القلق
على القصائد، وأمشي
***
أكتب سرًا
للساعة، تدقُّ ولا أحد يسمعها
وأعاتب أشباحًا
لم يدرجوا في سجلات الحكومة أسماء قتلانا
فالقلق يبدأ من العنوان الذي يقوم على ثنائية الوضوح (الكتابة) والغموض (سرًا) وتتجلى هذه الثنائية في متن القصيدة التي تتكون من سبع مقاطع، وفي هذين المقطعين (5،6) يحيل الفعل (اضجر) يعكس حالة القلق والحيرة التي يعيشها الشاعر، ويعزز ذلك لفظة (الرماد) ووصفه بالقلق وما ينتج عن هذا الوصف من مفارقة يسقط من خلالها قلقه على القصائد، وتأتي صور (لا أحد يسمعها) و(أعاتب أشباحا) و(لم يدرجوا) لتتعزز صور الغياب التي تثير الأسئلة في ذهن الشاعر وتعكس قلقه، وتتضح هذه الحيرة والقلق الوجودي وحالة الرفض لواقع مزري في قصيدة (تنويعات لونية هاربة) التي يقول في جانب منها:
هذا الشخص أعرفه
أو... لست متأكدًا
قد أكون أنا... أو أحدًا آخر
يشبهني
أين أجد روحي التائهة؟
والأيام ملأت رأسي بالأكاذيب
فالشاعر يشير إلى نفسه باسم الإشارة (هذا) لكنه سرعان ما ينفي معرفته ويبقى في حيرة هل هو نفسه أم شخص آخر؟، ليعود لطرح سؤاله الوجودي الذي يذكرنا بأسئلة إيليا أبي ماضي الوجودية (جِئتُ لا أَعلَمُ مِن أَين وَلَكِنّي أَتَيتُ)، ويأتي ارتباط (التيه) بالمكان (اين) و(الأكاذيب) بالزمان (الأيام) ليرسم ملامح الحيرة ويجسد حالة القلق التي يعبر عنها، فذات الشاعر الحالمة والحائرة التي تتعذب وتفقد احساسها بالواقع المتردي وهو يحاول استعادة أحلامه الدفينة، لينعش روحه التي تضيء عتمة النفس ويترجمها في القصيدة ليبث الأمل في
الحياة.
وتهيمن المرآة بشكل كبير في الديوان بدءًا بالعنوان مرورا بالمتن، لتمثل الأمل الذي سرعان ما يتلاشى بسبب الدخول في دوامة القلق والحيرة، والدخول في دوامة المجهول، والرغبة في تجريد المعاني والافكار وتجريب الأساليب والصور بطريقة يتكتم فيها على أسرار القصيدة، من خلال تظليل بياضها وإخفاء معانيها خلف ستار مفرداتها والتردد في الكشف عن موضوعها، ليستعين بالتراكيب التي تقوم على الانزياح والمفارقة من مجاز واستعارة، في التعبير عن أفكاره، اذ يقول في قصيدة (ست وتسعون مترًا):
تسعل الشمس في الباحة
ونشمُّ رائحة الهواء
عندما تغسله الأمطار...
المرآة
تشكو الغبار والمطر
فإسناد الفعل (تسعل) إلى (الشمس) وإسناد الفعل (تشكو) إلى (المرآة) يصور حالة القلق، ويأتي عطف المطر على الغبار ليؤكد صورة الحيرة والقلق لتنفتح القصيدة على أسئلة الوجود والحياة، المتعلقة بالزمن والموت، وتتحول المرآة الى سجن يحاصر الشاعر في قصيدة (في المعرض القادم)، إذ يقول:
في المعرض القادم
سأطلق... سراح
رجلٍ يشبه نفسه محبوس في مرآة
ومخلوقات ثنائية الرأس
فالشاعر يتطلع إلى مستقبل يتخلص فيه من القيود، أما قوله (رجل يشبه نفسه) فقد عبر بها عن قلقه الوجودي، ويعزز ذلك قوله (مخلوقات ثنائية الرأس) اشارة الى حالة التردد والقلق، الذي يتخذ أحيانا صورة السؤال الذي طالما تكرر في الديوان وكان السبيل الذي يعبر من خلاله الشاعر عن تطلعاته وهمومه كما في قصيدة (متى أنام مطمئنا) التي يقول فيها:
في شظايا الدمع المكدسة في المرآة
ثمة آخرون
لا أعرف نفسي بينهم
والعالم لا يحفل بأسئلتي
بل يظن... أنني أهذي
أحارب نسورًا برأسين
وأدعي أجمع الحصى في القمر
فالنص هنا ينفتح على دلالات متعددة يحاول فيها الشاعر الكشف عن علاقته بالعالم الذي لا يملك أجوبة لأسئلته لتتكرر الأسئلة الوجودية التي تقلق الشاعر في واقع لا يقدم الحلول، لتدخل ذات الشاعر في صراع مع الواقع الذي يقابل
المرآة.