أحمد الشطري
«اللغة كائن حيّ» قابل للتطور والتوالد، وفي ذات الوقت هي قابلة للهرم والتلف في بعض أجزائها، وهي أيضا كأيِّ مادة قابلة للتجدد أو الاندثار، وكل عملية تجدد أو توليد لا بد لها من فعل وفاعل يؤديان إلى تلك النتيجة التي تمنحها ديمومة الحياة والبقاء، وتحفظ لها رونقها الذي يمنحها القدرة على الوقوف بثبات بوجه متغيرات الزمن، ولعل الشعراء هم في مقدمة الفاعلين الذين يستولدونها أو يلقحونها بإبداعهم.
وهم أيضا من أهمّ القادرين على تدوير عجلات ماكناتها لصناعة مفردات أو تراكيب جديدة وبذر تربتها لإنتاج فسائل جديدة مما تحتفظ به من جينات؛ لتواكب آلة التطور الزمني ومتغيرات ذائقة التلقي، وهذا ما يحتاج إلى روح مغامرة تستند إلى وعي، وذائقة تسير بخطى مغايرة، قادرة على الإمساك بالخيط الرفيع الذي يربط بين موروث الماضي وحاجة الحاضر والمستقبل، وفي دراسة لنا حددنا فيها مفهومنا لما اسميناه بـ (الانتاج اللغوي) أشرنا إلى عدد من شعرائنا الذين أسهموا في إضافة منتجات جديدة للغتنا العربية سواء على صعيد المفردات أم التراكيب سواء كانت إسنادية أم إضافية. ومن بين هؤلاء يبرز اسم شاعر عراقي مهم هو أجود مجبل، وفي قراءتنا لمجموعته الجديدة التي جاءت تحت عنوان (كأنّهُ) والصادرة ضمن منشورات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق عام 2021، سنشير إلى بعض مساهماته في عملية الإنتاج اللغوي، وأثرها الجمالي في نصوصه الشعرية.
ففي نص (فيروز) وهو أول نصوص المجموعة، يقول:
ونحنُ على النبعِ انتظرنا صبيةً... لتُقنعَ طفلَ الماءِ بالجريانِ
نجد هذا التركيب الجميل (طفل الماء) وهو تركيب إضافي يحمل حداثته التركيبية والذوقية والرمزية، وقد أسهم في تكوين صورة إدهاشية من خلال ما ترسمه العلاقة التقابلية بين مفردتي (صبية وطفل) من دلالات تجمع بين صورة البراءة المتمثلة بنقاء الطفولة من جانب، والفعل الإغوائي من خلال العلاقة بين الأنوثة والذكورة من جانب آخر.
وفي نص آخر بعنوان (كأنّهُ هو) يقول:
فقد تصير البلاد الحلمُ مقبرةً ... ويصبح الوطنُ العشبيُّ كالنعشِ
نجد أيضا تركيبا نعتيّاً مستحدثا يتمثل بـ (الوطنُ العشبيُّ) والذي يحيلنا الى دلالتين: الأولى دلالة لونية تتمثل في اللون الأخضر ودلالاته المتنوعة، وما نجده هنا في تمثل دلالته على الحياة والنمو؛ لتصطدم بتضاد دلالي متمثل بصورة النعش الذي يحمل دلالة الظلمة وتوقف النمو والحياة، أما دلالاته المعنوية فتتمثل بالصورة الجمالية للعشب وما تعكسه على النفس من طمأنينة وهدوء، والتي أيضا تصطدم بدلالة النعش التي تبعث على الخوف والاضطراب والموت.
وفي نص بعنوان (القادمون من الإنسان) يقول:
كانَتْ تقولُ ورَمْلُ الصمتِ يغمرُها... وبِضعَةٌ مِنْ طيورٍ فوقَها عبَرَتْ
وهنا نجد هذا التركيب الإضافي (رملُ الصمت) قد بُني على تلازم نتائجي بين مفردتي (رمل) و(صمت) إذ إن كلاهما يؤدي إلى الإخفاء أو التغطية عما تحتهما، وكلاهما يؤدي الى عدم الإبانة عن جوهر الأشياء ألتي يغطيانها، فالعلاقة هنا علاقة نَتائجية أو غائية، إذ إن كلاهما ينتهي إلى غاية واحدة. وهنا لا بد أن نؤكد أن عملية الإنتاج اللغوي لا تتم وفق تركيب أو توليد فوضوي يخلو من قيمة المعنى ولا يتبرر بعلاقة منطقية، إن لكل عملية إنتاجية غايات ومبررات وقيمة معنوية وجمالية ولا بد من تلازم بين هذه القيم، وإلا أصبح الأمر مجرد هراء لا طائل تحته.
وفي نص تحت عنوان (إلى الشرقاط) يقول:
أشرقاطَ السهاديّينَ،
مرحى لكلِّ فتىً تَوَطَّئَهُ جمالُكْ
نجد هنا انتاجا مفرداتيا، لمفردة (السهاديين) المشتقة من السهاد، بتحويل المفردة إلى صفة، ومن ثم جمعها على صيغة المذكر السالم، من خلال إيجاد متلازمة معنوية بين الشيئية والصفاتية، تتمثل بإضفاء دلالة المبالغة على المفردة. وكلامنا هذا ينطبق على مفردتي (البلاديون، الحياتيين) في هذه المجموعة.
وفي نص (لأنك خاتمتي) يقول أجود:
الأرض حولي مغطاةٌ بمن حُذِفوا... على هزيعٍ من الأخطاءِ ممتدِّ
نجد هنا انتاج إزاحي لمفردة (حُذِفوا) من خلال إزاحتها إلى دلالة القتل، وفق متلازمة القصدية في إخفاء معالم الشيء أو وجوده.
وفي نص (أحباء الفصول) في قوله:
وهذا فتى كم هزّت الليلَ أمُهُ... فما اسّاقطتْ إلا رؤى عمرِهِ الغَضِّ
نلحظ هنا أن الإنتاج اللغوي يتمثل في التركيب الإسنادي (هزّت الليل) والذي ترتب عليه تساقط الرؤى وهو مبني على علاقة تناصية مع قوله تعالى: {وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا} [مريم : 25]، من خلال إيجاد علاقة تقابلية بين متلازمتي (الليل والرؤى) و (النخلة والرطب).
وفي نص (عشاء) يقول:
ستدعونا البلادُ إلى عشاءٍ... ويجلس قربنا قمرٌ لذيذُ
إذ نلحظ أن تركيبا نعتيا مستحدثا يتمثل في مفردتي (قمرٌ لذيذُ) من خلال نقل التلازم الحسي للمعنى في مفردة (لذيذ) إلى التلازم الذهني وفقا لما تمليه الصفات الملازمة لمفردة (قمر).
وفي نص (أحباء الفصول يقول أجود:
من الأنهر الملغاة من ذكرياتها... أتوا يعلنون الماء في عطش
الأرض
نلحظ من خلال جملة (يعلنون الماء) أن هذا التركيب المنتج من خلال هذه العلاقة الإسنادية بين (يعلنون) و(الماء) قد اكتسب شرعيته من خلال العلاقة الخفية بين المعنى القاموسي لمفردة عَلَنَ - كما ورد في لسان العرب بأنّه: شاع وظهر- والمرتبط بالصورة المعنوية، والمعنى المستحدث المرتبط بالصورة المادية في عملية إطلاق الماء وإشاعته وفقا لدلالته الرمزية المرتبطة بالإحياء والمتناصة مع الآية القرآنية {وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ} [الأنبياء : 30].
إن استعراضنا لهذه الأمثلة المنتقاة مما انطوت عليه هذه المجموعة الشعرية للشاعر المهم أجود مجبل، والتي تمثل جانبا تطبيقيا لمفهوم (الإنتاج اللغوي)، لا تمثل استقصاء حصريا، فهناك الكثير من الأمثلة التي لم نجد الفسحة للإشارة إليها في هذا المقال.
وأجد أنه لا بد من الإشارة هنا إلى أن هذه المجموعة حافلة بالجماليات المغرية والجاذبة شأنها شأن كل ما أصدره أجود مجبل من مجاميع، لما يمتلكه من لغة ساحرة واسلوب حداثوي مميز.