هل عرف البابليون العلاج النفسي بالتداعي الحر؟

مقالات
  • 14-11-2021, 07:37
+A -A

 أ. د. نجاح هادي كبة
 

ليصلك المزيد من الأخبار اشترك بقناتنا على التليكرام
لقد عرفت بابل بوجود أعمدة من المفكرين والحكماء (الذين اثبتوا بطريقة علمية المعادلات الجبرية من الدرجة الثانية قبل اكثر من ألفي عام من نظرية ديوفانت الأغريقي، البابليون الذين هم أول من بحث في علوم الفلك وعلوم الطلب منذ حوالي اكثر من ألفي عام قبل الميلاد) ((جان بوتيرو، الديانة عند البابليين، ترجمة: د. وليد الجادر، مركز الانماء الحضاري ب.م، 1952،ص: 88)) ومن خلال طقوسهم الدينية يبدو أنهم اقتربوا من العلاج النفسي بصورة مقصودة أو غير مقصودة، وعلى النحو
الآتي:
من خلال طقوس العبادة: فطقوس العبادة البابلية يقترب مضمونها من مفهوم مصطلح التداعي الحر الذي يستعمل في العلاج النفسي الحديث الذي ابتكره سيجموند فرويد (1865 – 1939) وهو أن يترك للمريض حرية التحدث والكلام من دون عوائق للتعبير عما يجول في شعوره ولا شعوره وبحرية تامة للتخلص من الكبت النفسي ولمعرفة العمليات اللاواعية في العقل الباطن (Tunconcsiousi) التي هي: (مجموعة العوامل التي تؤثر في سلوك ومشاعر المريض وأفكاره من دون أن يكون شاعراً بها وبكيفية تأثيرها) ((د. احمد عزت راجح، اصول علم النفس، الدار القومية للطباعة والنشر، مصر، 1966م، ط6، ص: 148)) وفي طقس العبادة البابلي فان المتعبد او الكاهن يخاطب الإله في نغمة شعرية مرتبة في نصوصها ونسميها (ترانيم ومزامير)... وتكون هذه إما على شكل ترانيم تعظيمية، أو كلمات خطابية (للتعبّد) القصد منها التوصل والطلب ويمكن تمييزها وتصنيفها في مراتب حسب أنغامها وحسب استعمالها في الطقس ومن هذه (رفع اليد اثناء “التعبد”) او (عمل انين بواسطة مزمار) أو (أغان شعبية)... لإنعاش قلوب الآلهة وكذلك (اطلاق صرخات طلب الرحمة) او (تعديد مطوّل بالخطايا والخ...) ((جان بوتيرو، الديانة عند البابليين، المصدر السابق، ص: 144 – 145)) ويلاحظ ان طقس العبادة الرسمي وهذه المزامير نفسها كانت تنشد من قبل فرقة تصاحبها فرقة موسيقية تعزف إما على مزمار أو على دف أو السنطور مع الترانيم واستخدام المزامير واطلاق الصرخات مما يخفف من الكبت النفسي عند المريض (الذي يقوم بصد الدوافع الثائرة المحظورة، خاصة الدوافع الجنسية التي تهدَّد بالإفلات من زمام الفرد وان تحقق بالفعل بصورة صريحة سافرة مباشرة مما قد يكون خطراً على الفرد أو ضارًّا بصالحه في المجتمع) ((د. احمد عزت راجح، اصول علم النفس، المصدر السابق، ص: 149)). ويبدو من نص (نشيد التوبة) كيف ان هذا الطقس الديني اشبه بالعلاج النفسي للمريض؟ مثل: ((دعائي لم يستمع اليه أحد: وهذا ما يفجعني/ ولقد جاوزت وخالفت حدود حماية الإله/ اغفر لي ذنوبي، أحسّ بها تثقلني، الخ)) ((جان بوتيرو، الديانة عند البابليين، المصدر السابق، ص: 146)) ولا شك في ان مما يحويه النص من شعور المتعبد بالعزلة وشكواه من عدم سماع صرخته وانطوائه على نفسه كعجوز وشعوره بالذنب وتوسله للإله بأن يغفر ذنوبه، هو تنفيس عما يشعر به من كبت نفسي وآلام وجد المتعبد في طقوس العبادة هذه ملاذاً له. وعلى الرغم من القيود الموجودة في الطقس الديني البابلي مما لا يجعله حرّاً تماماً فان العلماء المشتغلين اليوم بعلم النفس التحليلي يرون (لابد من اعتبار ((التداعي الحر)) ليس في حقيقة الامر حراً، فالمريض يبقى تحت الوضع التحليلي وتظهر مقاومته ضد عودة اللامكبوت) ((عن النت)) كما ان بعضهم اعتبره إجراء تقانيا، والتقانية تخضع للتعديل والتحليل على الرغم من اختلاف أنواعها جميعاً وما من أحد الا يرحب بتغيير نحو
الأفضل. 
كما ان المعالج النفسي في التداعي الحر لكي يكتشف اغوار المريض ويستبطنه عليه أن يحرّك شعوره بأسئلة او تصاوير لكي يسترسل بكلامه وهو ما نلاحظه في طقس العبادة البابلي في توظيفه للموسيقى والاغاني الشعبية واستخدام المزمار – كما سبق ذكره- مما يجعل طقس العبادة البابلي قريباً من مفهوم التداعي الحر الحديث.