طالب عبد العزيز
في بهو الفندق بالبصرة، وفي زاوية بإضاءة قليلة، جلستُ، صحبةَ أصدقاء، من مشارب شتى، أستمع الى حديث الشاعر والمترجم، والمغترب في لاهاي، بهولندا محمد الأمين الكرخي، العراقي، الفارسي، وهو يروي واقعة تهجيره وأهله وغربتهم، وانشطار هويته بين بغداد، حيث ولد وأبواه، وشيراز حيث قدِم أجدادُه، قبل مئات السنين، ومعه كنت أتتبع سير غربة روح صبيٍّ، في الحادية عشرة من العمر، وهو ملقى على الحدود، وسط حقول الألغام والأسلاك الشائكة، معه رحت أرقب خطى الاقدام الصغيرة، الحذرة، وهي تُرفع برويّة وأناة لتستقر، خشية اصطدامها بلغم، ربما، هو مما زرعتُه أنا، جنديُّ سريّة الهندسة العسكرية.
بين إطرائنا على ترجمته لشعر المخرج والشاعر الفارسي عباس كيا رستُمي، وبين إصراره على عمل فيلم، يجمع فيه شتات العراقيين من أصول فارسية، الذين تم تهجيرهم الى موطنهم الأم (إيران) في ثمانينات القرن الماضي ذهب محمد الكرخي الى تبيان واحدةٍ من معاناة أبناء قومه، نافياً الوصف الذي دأب عليه مؤرخو الحدث ذاك، والذي أجمعموا فيه على أنَّ كل الذين هُجّروا إنما هم من أبناء الكرد الفيلية، مُسهباً في تبيان قضية قومه، وضياعهم في الوصف ذاك. كنتُ أصغي اليه، متقصياً آلام روحه، ومعه أتتبع صدى مطرقة جدّه الحداد، الذي صنع الأبواب والشبابيك وأسيجة الحدائق والأقفاص ربما، تلك الروح، التي فاضت على التربة العراقية، ثم مضغتها مثل لبان، أُمتُصَّتْ حلاوتُه، فإذا هو اليوم هلامٌ فائضٌ، لا يبتلع ولا يلفظ.
قد لا يشعر أحدُنا بمعنى الانتماء للوطن، فهو مفهوم يلتبس أحيانا، ولا تحدده الوثيقة الرسمية، في بلاد تتصلّبُ عرقياً وطائفياً وقبلياً، لكنني، مع الكرخي العراقيّ الفارسيّ، الذي غادر إيران الى هولندا، متغرباً مرةً ثالثة، بعد تهجير أسرته من بغداد، ترآءت لي لعنة الانتماء تلك، وقسوة أنْ تكون مرتحلاً أبدياً في الأمكنة، التي لم تتأكد بعد، من وجودك فيها، بعد مئات السنين، في رحلة الروح التي ابتدأت ببغداد، ولم تنتهِ في لاهاي ربما. بدا لي أنه وجد ضالته في السينما، وفي الصورة تحديداً، بإيهامها، المنسوخ على شريط السلليوز، إذ، لم تستهوه كثيراً فكرة الورق، وكتابة التاريخ، هو الذي فقد يقينه بالكتابة، وبالوثيقة، التي لا تصرّح دائماً بالانتماء للوطن، هناك ماكنة شكٍّ كبيرة تمزِّقُ كلَّ هوية (وطنية)
في روحه.
هل أشعرني الأمينُ الكرخي بأهمية انتمائي الى قوميَ العرب، الاقحاح، والى مسقط رأسي في البصرة، أبداً، فأنا مرتحلٌ أبديٌّ في جسدي، متغربٌ في (وطني) يطردني صوتٌ لا أعرفه، ويفزعني حلمٌ رافقني طويلاً، وفي روحي من التغربِ والنفي ما لم أطلعْ أحداً عليه.