محمد صبار عبيد
استطاع مفهوم الهُويّة في الثقافة الجديدة على صعيد النظريات والرؤيات والمناهج والفعاليّات المعرفيّة الكبرى في العالم أن يهيمن على العقل الحديث هيمنة كبيرة، بحيث صار هذا المفهوم معياراً لمقاربة شتّى المفاهيم الأخرى المتعلّقة بالبحث الفلسفيّ والفكريّ والثقافيّ والاجتماعيّ والاقتصاديّ والحضاريّ العام، وعلى نحو أسهم في جعل الهُويّة هي المقصد المعرفيّ لكثير من التيّارات والمدارس الفكريّة والفلسفيّة المعاصرة، بما يجعل منها محوراً أصيلاً للتفكير والبحث والكتابة والتأليف والإبداع في شتّى الاتجاهات والمجالات، وصار البحث عن هويّة الأشياء هو جوهر الفعاليّة المعرفيّة الساعية إلى كشف حقائق جديدة على أكثر من صعيد، في سياق تبنّي وجهات نظر مختلفة للمفهوم تخضع عادةً لمرجعيّات ثقافيّة وحضاريّة واجتماعيّة لها جذور عميقة في التفكير الإنسانيّ، ولعلّ من أبرز الإشكاليّات المتعلّقة بالهويّة على مستوى ما يمكن تسميته {صراع الهويّة} هي إشكاليّة الأكثريّة
والأقليّة.
تأخذ إشكالية هويّة الأكثريّة وهويّة الأقليّة فلسفتها القهريّة من ثنائية المركز والهامش ذات الطابع السوسيوآيديولوجيّ، فثمة مركز دائماً يحظى بكلّ شيء يدور حوله الهامش الذي يعيش على الفتات والبقايا والأسمال والزوائد والفضلات، وأطروحة المركز والهامش أطروحة فلسفيّة بالدرجة الأساس اشتغل عليها العقل الغربيّ ومازال على الرغم من أنّ ديريدا فكّك هذه الثنائية ونقدها بآليّات منهج التفكيك في كتابه الشهير ((الكتابة والاختلاف))، غير أنّ استنساخ هذه الأطروحة في المجتمعات العربيّة جرى على أوسع حجم ممكن منذ زمن بعيد، اجتهدت فيه الأكثريّة على تكريس هذه الرؤية القاهرة لكبح جماح الأقليّة من جهة، وللاستمتاع من جهة أخرى بمكاسبها ومُتَعِها ولذائذها إلى أقصى درجة ممكنة ومتاحة وبلا حدود.
هُويّة الأكثريّة بمرور الزمن وتتالي التجارب تؤسس مجموعة مركزيّة من التقاليد الضاغطة والحاجبة والعازلة، تعمل على تعزيز هيمنتها وفرض سلطتها بقسوة على هويّة الأقليّة وإزاحتها إلى أبعد نقطة ممكنة عن مركز النفوذ والسلطة والمغانم، وغالباً ما تُستخدم اللغة العربية في معظم المجتمعات العربيّة سلاحاً فعّالاً في تركيز هذه السلطة في منطقة اللسان، للتقليل من أهميّة غير العرب في ميدان قيادة دفّة المجتمع وصنع مستقبله، وذلك في سياق التأكيد على أنّ اللغة العربيّة أحد أهمّ مكوّنات هويّة الأكثريّة في المجتمعات العربيّة ولا يمكن لغير العربيّ التمكّن منها، بَلْه الكتابة والإبداع والتفنّن والتفقّه فيها، على النحو الذي أصبحت فيه اللغة العربيّة هدفاً لحقد الأقليّة وميداناً حيّاً ورحباً ومناسباً للحرب الباردة الناعمة بين صوت الأقليّة المنطلق من عتمة الظلال، وصوت الأكثريّة المتحدّر من قمّة الجبل، حرب باردة ناعمة تنطوي على أحقاد نائمة وسياسة لا تُبرِز الوجه الحقيقيّ للأشياء.
لعلّ من أبرز ردود أفعال الأقليّة على الأكثريّة في ما يتعلّق بممارسة الأشكال الإبداعيّة لمبدعي الأقليّة هو التشبث الصميميّ بالأشكال الإبداعيّة الثانويّة، بوصفها وسيلة خلاص وهويّة هامشيّة مميّزة بعيداً عن الأشكال المركزيّة التي تدين بالولاء الكامل لهويّة الأكثريّة، وسعي المبدعين المنتمين إلى فئة الأقليّة نحو تشكيل ثقافتهم وإبداعهم ورؤيتهم التي تسمح على نحو ما بتأكيد هويّتهم، والاجتهاد في خلق طرافة نوعيّة خاصّة في هذه الأشكال الإبداعيّة الثانويّة التي يمكن أن تلفت الانتباه إلى أنّها ثورة ثقافيّة داخليّة عميقة على أشكال الأكثريّة الإبداعيّة الكلاسيكيّة، في سياق إيجاد بديل مختلف عن صوت الأكثريّة وإيقاعها ورؤيتها وحساسيتّها ونظامها الفنيّ والجماليّ المستقرّ، إذ إنّ جماليّات التعبير في الأشكال الإبداعيّة الثانويّة (أشكال الأقليّة) تخترق النظام ولا تبحث عن استقرار أو هدوء أو مُطابَقة أو مثال، بل على العكس تماماً فهي تسدّد لكلّ هذه المفاهيم سِهاماً ناريّة مسمومة تستهدف إصابةَ مَقتلٍ فيها، وداخل هذا الفضاء القلق بالذات تنتعش هويّتها المتفرّدة وتضاعف ثقتها بنفسها.
يمكن القول على هذا الأساس بأنّ هناك شعر الأقليّة وسرد الأقليّة وتشكيل الأقليّة وسينما الأقليّة وغيرها، وهي بحاجة إلى فحص نقديّ ثقافيّ عميق ورصين ومسؤول يكشف عن طبيعة هذه الأنواع الإبداعيّة ويضعها في مسارها الصحيح، ويؤكّد انتماءها على نحو يكتسب فيه كلّ نوع شخصيّته وهويّته في سياق الأنواع الإبداعيّة السائدة، وبذلك يتمّ الكشف عن حالة إبداعيّة تعكس وضعاً ثقافياً ورؤيوياً وأيديولوجياً له حضوره القارّ، ولا سبيل إلى تجاوزه أو إهماله أو التقليل من شأنه مهما كانت الظروف والأسباب والمبرّرات.
عمل مثقفو وأدباء الأقليّة على التصدّي للغة الأكثريّة من داخلها والسعي إلى اختراقها بوساطة التمكّن الكبير منها، ومن ثم الانقلاب عليها وتفكيك هيمنتها، فشاعر مهم مثل سركون بولص أحد شعراء الأقليّة السريانيّة في العراق (من جماعة كركوك الأدبيّة الشهيرة) كتبَ شعره بالعربيّة (لغة الأكثريّة)، لكنّه اتجه إلى كتابة قصيدة النثر في وقت مبكّر، على الرغم من أنّه يُتقن ((علم العروض العربيّ)) وبوسعه الكتابة على أصول الشعريّة العربيّة المعروفة، سواءً على الشكل التقليديّ أم شعر التفعيلة، لكنّه آثرَ قصيدةَ النثر لأنّها نموذج الأقليّة، متنقّلاً بين مدن العالم حتى بلغ مدينة من مدن العولمة المركزيّة (سان فرنسيسكو) ومات ودفن جثمانه فيها تعبيراً عن الانتماء إلى أرض المنفى وترابها وجنّتها، بعيداً عن أرض الأكثريّة؛ وبهويّة خاصّة تنتمي إليه حصراً بلا قيود ولا إكراهات ولا ذكريات