قيس عمر
تعد الرواية من وجهة نظر باختين (جنس أدبي آكل للأجناس كلها)، ومن هذا المنطلق يمكن لنا الإشارة إلى الأهمية التي تتمتع بها الرواية وأنواعها التحتية كالرواية التاريخية، فالرواية بعامة عمدت إلى توسيع ممكناتها المعرفية والفنية، متجاوزة الحدود القارة للأنواع الأدبية وتحديداتها الصارمة، وهي بهذا متجاوزة لكل تأطير يحاول الإمساك بخصائصها الفنية والمعرفية؛ ذلك أنها متحولة وغير ناجزة.
إن الرواية تسعى بكل جدية لخلق توترات وتداخلات نسيجية جديدة مع حقول معرفية مجاورة، ولأنها توسع مشغلها المعرفي بشكل سريع فقد وجدت في التاريخ نسقا سرديا قابلا للتحول مقاربا لطبيعتها، فالتاريخ {حكاية عن الماضي، أو مجموعة من الأحداث والوقائع الإنسانية التي مضت وانتهت؛ لكنها قابلة للتحول والتفسير والتأثير، وهي أحداث ووقائع تترك بصماتها وآثارها في الحاضر والمستقبل}. فالتاريخ بنية حكائية خبرية مهمتها الإخبار الموضوعي؛ لكنه يتجلى بمظهر، سردي من هنا سيكون بمقدور الرواية {أن تستقبل مواد تاريخية لتشييد كيان سردي دال فنيا}، ومن هذا الالتقاء الفني ستتشكل علاقة التضايف التي ستمنح الرواية بعداً جديداً وأفقاً متحولاً بحسب التعامل مع التاريخ ومادته. ويمكن للباحث أن يجد أن الرواية التاريخية التقليدية قد تعاملت مع التاريخ بشكل لا يتعارض ولا يتقاطع مع الخبر التاريخي، فصارت الرواية (خطاب أدبي ينشغل على خطاب تاريخي مثبت سابق عليه انشغالا أفقيا، يحاول إعادة إنتاجه روائيا ضمن معطيات آنية لا تتعارض مع المعطيات الأساسية للخطاب التاريخي، وانشغالا رأسيا عندما تحاول إتمام المشهد التاريخي من وجهة نظر المؤلف إتماما تفسيريا أو تعليليا أو تصحيحيا لغايات إسقاطية أو استذكارية أو استشرافية)، يمكن لنا هنا أن نشير إلى أن هذا التعاطي مع التاريخ في الرواية التاريخية تم على وفق النسق الخبري التاريخي، إذ نجد أن الرواية التاريخية التقليدية أفادت من البعد الحكائي التاريخي، ولكنها لم تتقاطع بشكل كبير مع المادة التاريخية ومصادرها الرسمية ذات البعد الموضوعي الوثائقي الذي يدخل في باب الأرخنة ومصادرها المعتمدة.
إن الرواية التاريخية تحول التاريخ لمادة حكائية وتعيد بناء حكاية التاريخ وفق معطيات ومرجعيات التاريخ وحركته؛ لهذا نجد الروائي في الرواية التاريخية يتغيا التاريخ ويهدف لتقديمه وفق منطق حكائي تتابعي سببي، أو يحاول تقديم تفسير يقارب الحقيقة التاريخية التي يتبناها التاريخ وفق مواضعاته المعيارية الخاصة، فالرواية التاريخية ترمي إلى إعادة تركيب الحياة الماضية بشكل تخييلي، ووفق هذا التصور المرجعي للرواية التاريخية سيكون التاريخ هو الناظم المرجعي لعملية التخييل الروائي، وستكون هناك ثمة مرجعيات تحدد مسار النص ا
لروائي.
التضايف ما بين التاريخي والتخييلي:
إن الرواية التاريخية في بنيتها العميقة تقوم على تعالق وتداخل نسيجي بين (التخييل/ التاريخ) إذ يرتبط أحداهما بالآخر ويتعالقان، وهذا التعالق النسيجي يشكل تضايفا معرفيا، بين بنيتين مختلفتين؛ ذلك أن التاريخ مادة تتغيا (الوثائقية/ الحقيقة/ الصدق/ الموضوعية) في بعدها المعرفي بينما الرواية بنية (جمالية/ تخييلية/ الذاتية/ الصدق الفني) تتغيا بعداً جماليا معرفياً بفعل عنصر الحكي وتلازمه مع المخيلة؛ لهذا ثمة تداخل وتضاد على المستوى البنيوي بين هاتين البنيتين (بنية معرفية وثائقية/ بنية جمالية تخييلية)، وسعت الرواية إلى استثمار التاريخ بوصفه أحداثاً ووقائع ماضوية يمكن للروائي إعادة تركيب تلك الاحداث مفيداً من بعدها الحكائي الخبري، فالرواية تحاول توظيف البعد الوثائقي للتاريخ بوصفه حاملاً للحقيقة الموضوعية، ومن ثم دمج هذه الوثيقة في مجرى الرواية وبنيتها التخييلية، ولا سيما في الرواية التاريخية التي تنهض على قطب تاريخي موضوعي وثائقي مطابق للواقع وقطب فني يستجيب للممكنات الفنية الاجناسية، ويمكن القول هنا إن هذا الانتظام للتاريخ في الرواية التاريخية التقليدية هو النسق السائد، فالتاريخ يحضر بوصفه سلطة نصية، تدفع بالروائي إلى الانخراط في وجهة نظر الخبر التاريخي وأيديولوجيته السياسية المتخفية خلف التاريخ وسلطته، بوصفه وثيقة ماضوية لا يمكن إعادة وقائعها وفحصها؛ بينما الرواية الجديدة تختلف عن هذا التوظيف المباشر للتاريخ، فقد عمدت الرواية الجديدة الى إقامة تحول فني لمفهوم التاريخ وتقويض سلطته الخبرية، ونقلت التاريخ من مجاله الدلالي إلى مجال فني تشكيلي/ تدليلي مغاير، وهذا كله يندرج في خلخلة مركزية التاريخ وبنيته السلطوية العميقة، بمعنى أن هناك تحريراً وتحولاً في قراءة مصادر التاريخ، وثمة وعي روائي يعمل على خلخلة سلطة الخبر التاريخي، وثمة زحزحة للبعد الموضوعي الذي يحتمي به التاريخ مقابل الرواية، لقد أفادت الرواية الجديدة من التحولات الفنية والتداخل الاجناسي بشكل كبير، مما منحها وهجاً جديداً جعلها تعيد بناء مواضعاتها التشكيلية والتدليلية، ولا غرابة أن تسعى الرواية الجديدة للإفادة من انحلال المركزيات القارة التي حكمت البنيات المعرفية للعلوم، كما سعت بشكل جاد، لإعادة تحرير القراءة للمرويات الكبرى، ومحاولة توظيفها بشكل مغاير، ولعل التاريخ بوصفه بنية مركزية تمتلك سلطة زمنية. عملت على مر العصور على صياغة الرؤى والاطروحات الخبرية مما منحها بعداً "سلطويا" مالكاً لزمام الحقيقة الموضوعية؛ ولكن الرواية الجديدة ومن منطلق انحلال ومساءلة التاريخ راحت تعيد قراءة الوقائع، وتحاول أن تفكك خطاباتها السلطوية المتخفية تحت ستار الحقيقة الموضوعية تارة، وتارة تحت ستار البعد الوثائقي المحايد، وإذا كان لا بد من رصد طبيعة التناول والتوظيف للتاريخ في الرواية التقليدية فإننا سنجد أن الرواية التقليدية أفادت من سلطة التاريخ ووثائقيته بشكل حكائي مباشر، ولم تعمد إلى خلخلة وتحرير الخبر التاريخي مما أبقى التاريخ مروية كبرى لا يمكن مساءلتها ولا نقدها، ولا تفكيك شفراتها الزمنية على اعتبارها تتمتع بسلطة البعد الوثائقي، لكن الرواية الجديدة عمدت إلى إعادة تفكيك الوقائع الوثائقية وأعادت تأويل الخبر التاريخي وسعت إلى تقديم رؤية جديدة تتسق مع نسق التحولات المعرفية التي كشفت عن البعد السلطوي للوثيقة التاريخية، وانها ليست بمنأى عن المساءلة وإعادة القراءة ومن ثم الإطاحة بسلطة التاريخ الموضوعية، وادخاله في عملية التخييل؛ لكن على وفق مواضعات المشغل الروائي التخييلي.