ياسين النصير
يدور الحديث خلال جولاتي الكثيرة في البلدان العربية، ولقاءاتي مع المثقفين العرب في مهرجانات وندوات وجلسات ومحاضرات، عن محن المثقفين العرب ومشكلاتهم مع الأنظمة السياسية، ومع الثقافة، ومع تنوع القوى المهيمنة في هذه المرحلة، ومع التركة الطبقية للمجتمعات العربية، التي اختلت في الأربعين سنة الأخيرة. ويستطيل الحديث إلى طبيعة الرواية والقصيدة والترجمة وحركة التنوير، وأمور تتصل بدور المثقف في الخمسينيات ودوره اليوم، كالتفكير بمن يصنع الحداثة، ومن يفكر بالتقدم، وتستطيع ان تتحسس أن ما يشغل معظم المثقفين العرب هو الكيفية التي يجب أن يعبروا فيها عن مشكلاتهم الاجتماعية ليؤلفوا صوتًا في عالم اليوم، مستذكرين كيف أن الثقافة العربية الإسلامية نقلت الفلسفة اليونانية إلى الغرب لتنهضه من عصور ظلامه، بينما بقينا نحن متراجعين عمّا فعله أجدادنا، نجتر نصوص غيرنا.
وعندما نحاول اجتراح أفكار أو ابتداعها نجد من سبقنا إليها بعقود، فثمة انحسار كبير في ان يفكر المثقف العراقي مثلا بمشكلات بنية المجتمع، والكيفية التي قاد السياسي فيها هذا المجتمع إلى وضعية لا توصف؛ هل هي طبقية أم طائفية أم مناطقية، أم قومية ودينية، بعدما كان المجتمع العراقي في طليعة المجتمعات العربية في مواكبة الحداثة والأفكار التحررية في العالم، فاصبح التفكير في هذه القضايا تخلفا، واعطيت البدايات للتفكير إلى بعث الماضي وإعادة استنساخه على أشكال من هدى وصور التخلف، وكأننا اعدنا إلى الوراء قرونا، لا نفكر كما فكر الكندي وابن سينا والرازي وابن الهيثم والجاحظ والفلاسفة العرب بالعالم والمادة والروح والفكر والشعر والعلوم والإنسان والموسيقى والرحلات والسفر، بدأنا من جديد نعيد انتاج مقولات مغلقة نوافذها على نفسها بعد أن أغلقت أبوابها، لنجد المثقف التنويري يدور الآن في حلقة ضيقة من تصوره عن العالم والثقافة والحداثة، إن لم تخلُ كتابات الكثيرين منا من هذه المفردات لنستبدلها بأدعية ثقافية وترنيمات حزينة وكان العالم يدور
حولنا.
محنة المثقف العراقي لا تشبهها محنة أي مثقف عربي، وخلال اللقاءات والأحاديث نجد المثقف العراقي يتحدث بأكثر من لسان، لسان عن الفلسفة، ولسان عن العالم الحديث، ولسان عن التراث، ولسان على الدين، ولسان عن العالم، ولسان عن النفط والزراعة والثقافة، ولسان عن اللا جدوى من النضال الاجتماعي بعد أن برزت فئات اجتماعية امتلكت الجغرافيا المادية والجغرافيا الروحية للشعب، مثل هذا الحديث لا يتحدث به المثقف المصري او اللبناني او السوري أو اليمني أو الخليجي إلا مؤخرا، بعد أن سرت رياح التخلف لمرابعهم، كل احاديثهم عن منتجي ثقافتهم، وها هم يعيدون طباعة انتاج ما تقدم لمثقفيهم. لم يكن المثقف العربي مسؤولا عمّا نحن فيه، بل الأنظمة السياسية التي تعاقبت منذ 2003، هي المسؤولة عن غياب مقصود لدور المثقف العراقي، وأستطيع القول من دون مواربة أو خجل، كان المثقف العراقي هو الأكثر تضامنا مع المثقفين العرب في قضايا بلدانهم، في أيام حرب الجزائر، وحرب اليمن، وحرب السويس، وحرب حزيران، وحرب تشرين، وحروب فلسطين الكبيرة والموضعية، ولكن لم نجد مثقفا عربيا، إلا قوى بعض مثقفي اليسار قد وقفت مع محن المثقف العراقي.
قلت في لقاء مع مثقفين عرب، علينا أن ننتبه إلى ما يحدث في بلداننا، قبل أن نتوجه بالحديث عن مشكلات بلدان أخرى، لقد عمل الاستعمار الثقافي على تجزئة قضايانا المصيرية وأصبحنا مجرد باعة لأدوات احتياط لعرباتنا المحلية.