رعد أطياف
لا يخلو بلد من أحرار حتى لو كانوا يكابدون أعلى درجات المعاناة، وهؤلاء هم الأكثر تواضعاً ومحبة للناس نظراً لتجاربهم الغنية. غير أن الموضوع مختلف من ناحية اجتماعية؛ إذ لا حرية مع المعاناة، خصوصاً حينما تسود الأنانية ويرى كلّ منّا نفسه مهماً مقارنة بالآخرين. بتعبير آخر، حتى لو توفر أفراد أحرار وسط المعاناة، لكن الجموع لا تستوعب فكرة الحرية في ظل المعاناة. لذا سيكون العاتق الأكبر على النخب الفاعلة للعمل من أجل الصالح العام، وتأخذ بعاتقها هذا الأمر العظيم.
الاهتمام بالذات أكثر من الآخرين سيقودنا للانشغال بقضايا بعيدة عن معاناة الناس، وسيكون مجمل ما نطرحه من مواضيع هو من أجل التميّز. وكلما كانت همومنا تنحصر بالتميز كنا إلى المعاناة أقرب. يذكر أحد الكتّاب، أن النخب الروسية الليبرالية تتندّر على أهل الريف كونهم لا يفرقون بين عصير الليمون الطبيعي والصناعي، وهذا مبلغ هموم تلك النخب المغتربة عن واقعها.
ويذكر لي أحد الأصدقاء أنه التقى شاعرا مغمورا في إحدى الدول العربية، وكان هذا الشاعر حزيناً ومتذمّراً كونه لم ينل الاستحقاق اللازم من قبل الجمهور، هذا الجمهور الذي سعى صاحبنا طيلة أكثر من عقد لتنويرهم!، لكنّه جوبه بالجحود والنكران والتجاهل لجهده التنويري الشعري.
أن رجل مثل ماو تسي تونغ فهم اللعبة جيداً؛ من غير الممكن أن تشتم شعبك بحجة التميّز عنهم وفي ذات الوقت تسعى لإحداث التغيير. لقد وقف هذا القائد الصيني بين صفوف المثقفين المتأثرين بقيم الحداثة، وخطب بهم قائلاً: لا يمكنكم أن تحدثوا التغيير المطلوب وأنتم تشتمون شعبكم، ينبغي عليكم أن تكونوا بين صفوف الفقراء لكي تفهموا متطلباتهم، ولذلك ستفشلون في اقناع الشعب الصيني، ولا أظنكم ستقدمون شيئاً على الإطلاق. ثمة فارق شاسع بين استنباط الفرضيات من الواقع وبين استنباطها من أمنياتنا وأحلامنا الوردية. الأولى ستكشف لنا طبيعة المرحلة والمنطق الملائم لها، والثانية تضعنا في سلسلة طويلة من الأوهام، وهذه الأخيرة ستقودنا حتماً إلى المعاناة. ومن الصعب للغاية أن تتأسس حرية على المعاناة.
لكن الغريب في هذا الصدد، أن بعض المتعلمين يتهكمون على المجتمع بحجة عدم قابليته على التغيير، وهم بذلك ينتظرون شعباً طبقاً لمقاساتهم؛ فإن وجدوه خير على خير، وإن لم يجدوه فسيستأنفون دورة جديدة من التذمر والعدمية واتهام الشعب برفض التغيير، كما لو أن الشعوب الأخرى جاءت مُسَلفَنَة من كوكب آخر.