كامل عويد العامري
في البدء أهدى الكاتب باتريس فرانشيسكي روايته (لو بقيت واحدة، التي صدرت في 25-08-2021 عن دار غراسيه الفرنسية) بالقول «في ذكرى رفيقتي هفرين خلف التي قتلت في 12 تشرين الأول (أكتوبر) 2010 في تزوازي - كردستان - سوريا”، القصة للوهلة الأولى بسيطة: تزور الصحفية الغربية راشيل كازاناوفا، مقبرة في كوباني لمدة ثلاثين دقيقة، فتكتشف أن القبور وقد نهبت إلى حد ما. لكن كان هناك قبر مزدوج صغير الحجم وهائل يلفت انتباهها. وبجانبه مباشرة صورة لفتاتين جنبا إلى جنب في إطار خشبي، هما تيكوتشين وگولستان، وهما من مقاتلات في الفرع النسائي لـ “وحدات حماية الشعب».
تيكوشين، كردية وهي في الأربعين تقريبا، وگولستان، في العشرين من أصل إيزيدي، وكلاهما قُتلا في الهجوم التركي عام 2019. الأولى كانت قائدة كتيبة في كوباني. والثانية، مساعدة وحارسها الشخصي.
**
تقرر راشيل متابعة تاريخهما، وفي رحلة البحث تلتقي بشهود أتاحوا لها إعادة بناء قصتهما، تيكوشين تتميز بصفة عامة، بسلوك شرس ورقة متناهية، بشعرها الطويل المضفور ضفيرة واحدة، وهي الهوية التي تتميز بها المقاتلات التي يطلق عليهن تسمية الـ (وحدة حماية المرأة)! وگولستان، بلا أسرة، وجدت نفسها، تقاتل جنبا إلى جنب المقاتلات.
لكن من خلال الصمت الذي يلف قصة هاتين المقاتلتين، تستشعر راشيل تحقيقا صعبا ومضنيا لا يعرف أحد إلى أين سيقودها. وهي تذهب قدما في عمل سري لإنجاز مشروعها.
**
وهكذا تبدأ القصة: «على الرغم من أن الأحداث خيالية»، فإن الشخصيات التي تمر بها ليست كلها خيالية، ناهيك عن الأماكن التي جرت فيها الاحداث قررت الصحفية أن يكون لتقريرها هدف واحد، ألا وهو معرفة كل شيء عن هاتين «المقاتلتين»، اللتين لا بد أن حياتهما القصيرة كانت استثنائية. فتلتقي راشيل بمقاتلة تدعى بيريفان كوباني لمعرفة المزيد وهذه تقودها إلى مقابلة القائد العام قمران، الذي سيتولى اطلاعها على ما مروا به خلال هذه الفترة الثانية. وهو قائد عظيم يختبئ في جبال قنديل مع مقاتليه، في رحلة قد تبدو شاقة، وبدوره يوصلها إلى الجنرال تولين كلارا (في جبال ديار بكر، في تركيا) وهي امرأة تروي لها كيف ماتت تيكوتشين وگولستان، بالرصاصة الوحيدة التي يفترض أن يحتفظ بها كل مقاتل ومقاتلة، وهنا يتعين عليّ أن ألخص تلخيصا مكثفا ما روته تولين كلارا للصحفية راشيل، لأن الاحداث السردية الأخرى، تتحدث في جلّها عن صعوبات التنقل من مكان إلى آخر، بين الجبال والوديان، والتعرض لمخاطر القصف. المهم هنا الحل السردي المتطابق مع عنوان الرواية (لو بقيت واحدة) أي لو بقيت رصاصة واحدة.
هناك شيء واحد مهم هنا، عن قصة الرصاصة الأخيرة – أنها مهمة نحتفظ بها نحن الفتيات لأنفسنا حتى لا نقع في أيدي... لقد اعتدنا الاحتفاظ بها في الجزء الخلفي من الجيب أو في كثير من الأحيان ندسها في شق في سترة القتال. كان هذا هو الحال بالنسبة لتيكوشين وگولستان.. قبل أن تترك جهاز الراديو على صدرها. أعلنت لي بهدوء أن جميع بناتها في موضعها قد قُتلن، ولم يبق سوى گولستان، وكانتا محاصرتين في أحد أركان المبنى، كل واحدة عند أحد طرفي رواق منهار، محميتان بأكوام من الركام؛ لم يكن لديهما سوى أربع ذخائر من طراز كلاشينكوف. كانت النهاية. لم تقل تيكوتشين لي وداعًا أو أي شيء من هذا القبيل - ولم أفعل أنا أيضًا. تصرفنا وكأن شيئًا لم يحدث. ثم جاءت اللحظة التي أصبحت فيها كل البنادق فارغة. لقد انتهى الأمر حقًا، لكن القدر كان أكثر قسوة. فجأة، بدأت گولستان بالصراخ أكثر مما يمكن أن تسمعه تيكوشين رعباً، كانت الرصاصة المعلقة في سترة المعركة، تلك التي كان من المفترض أن تنقذها من الرعب قد اختفت، وكان من غير المجدي البحث عنها بين أكوام الأنقاض وآلاف الأغلفة الفارغة المتناثرة على الأرض. فشعرت گولستان ما يجب القيام به في مثل موقف يائس كهذا، فزحفت تيكوشين إلى الخندق للوصول إلى موقع گولستان، وتمكنت من الوصول إلى الجانب الآخر حية. حاولت گولستان الهرب داخل المبنى، ركضت قدر استطاعتها، لكن تيكوتشين لحقتها وآطلقت النار عليها من مسافة قريبة برصاصة أخرى لديها، وخلال الدقائق القليلة من هذه الدراما، لم نسمع سوى شهقاتها، عبر جهاز الارسال...
عندما أبلغت هيئة الأركان العامة لاحقًا، شعر رفاقي بحزن شديد بسبب ما عانت منه تيكوتشين - وفي الوقت نفسه شعروا بالحرج الشديد من الطريقة التي قُتلت بها گولستان. تضحية كهذه لم نعرفها قط. مقاتلة تطارد رفيقتها لتقتلها، ولتجنيبها الأسوأ.
بعد نحو عشرة أيام، جاء تاجر يعمل كوسيط وعرض علينا شراء جثتيهما، - وكانت هذه ممارسة شائعة بينهم دائمًا. ومع ذلك، فقد طالبوا بثلاثة أضعاف السعر. ويبدو أنهم فهموا ماذا يعني لنا ذلك. فدفعنا. رأيت الجثتين، يا راشيل: كان لدى گولستان ثقب رصاصة في القلب - لكن كان وجهها مرعوبا. بينما كان جسد تيكوشين مفككا، ومن المستحيل التعرف عليه، ولم يكن لدينا ما نقدمه كمثال سوى تكريمهما، فدفنتا جنبًا إلى جنب، مثلما
عاشتا.
**
يبدو لي أن قراءة الكتاب تقدم إجابتين أساسيتين. الأولى هي المسؤولية عن أفعالنا؛ والثانية هي موقفنا من الموت. “كل تعاسة الناس أنهم يخشون الموت. إذا أبعدنا هذا الخوف، تحل السعادة وعلى رأي تولستوي في «الحرب والسلام»، «الإنسان لا يصلح لشيء طالما يخشى الموت. كل شيء يعتمد على من
لا يخشاه».