يوسف عبود جويعد
بالرغم من أن بنية العنونة للمجموعة الشعرية (مثل نبيٍّ يتوسّلُ معجزة) للشاعر سلام مكي، عتبة نصيّة موازية، الا أنها أيضاً تشكل رؤية فنية لمسار بناء قصيدة النثر للشاعر، كونها تقدم لنا نبياً ينتظر معجزة، ينتظر تغييرا، كونه (واقصد به الشاعر) ينسلخ من واقعه، وحياته، وطبائعه الاعتيادية التي يمارسها بشكل يومي، ليسحبنا الى عالمه الشعري، فلا نجد في هذا العالم وفضائه إلا عناصر القصيدة وادواتها وتشكيلها وتكوينها، ومفرداتها الانزياحية المعبرة والزاخرة بالمعاني والصور والدلالات الرمزية المضمرة، التي تسهم في جعل القارئ يدخل هذا العالم بسحره وخياله وعاطفته وحزنه وفرحه، وآماله الكبيرة نحو التغيير، واشتغل الشاعر أيضاً على استخدام الثنائيات المضادة بشكل لافت للنظر، فهو يستخدم تلك المضادات مثل: الموت والحياة، والحزن والفرح، والحرب والسلام، والحب والكره، والخير والشر، والعطش والظمأ وغيرها الكثير، بأسلوب جديد ومبتكر، بجعلها تناسلية أي أن المضاد يتناسل منه المضاد المعكوس لتتدفق منه الرؤية الفنية والصورة الشعرية، فالشاعر في هذه النصوص انسلخ من العالم الذي يعيشه ليراه من خلال منظاره الشعري، ويصنع من خلال هذا المنظار قصيدته النثرية الشعرية الانزياحية ليبتعد تماماً عن أي مسار آخر غير الشعر وعالمه، ليجعلنا لا نملك الا الانصياع والولوج الى متن تلك النصوص الشعرية، فالشاعر يرى أن العالم الذي يعيشه لا يروق له وعليه أن يفتش عن معجزة للتغيير، وعليه أن يدس هذا الخطاب ليكون مضمراً في ثنايا القصيدة، وهو يدعونا إلى ترك كل ما هو سيئ والانتقال الى هذا العالم الساحر.
وفي قصيدة (زيد وعمرو يضربان بعضهما في الصحراء) وهي قصيدة تدعو الى نبذ الفرقة والعداوة والارتحال معه الى حيث يشتهي:
أشتهي أن أكون صرخة أنثى
لامست صدرها المكتنز بالكبريت، شفاه طفل ميت
أشتهي أن أكون شهقة جندي يرى رأسه للمرة الأخيرة
أشتهي أن أكون برقاً لأرقص قريباً من الله
أشتهي أن أرضع من صدر الحرب
لأكون...
مثل رصاصة بلا بارود
مثل ظل، بلا جسد
مثل باحة، بلا شمس
مثل قضبان، بلا سقف
وفي قصيدة (بريد مستعجل من الله) نلاحظ كيف تتم عملية التناسل من المضاد الى المضاد وتدفق القصيدة وانزياحاتها ودلالاتها ورموزها وصورها بشكل يثير الانتباه ونحسها ابتكاراً جديداً لبناء قصيدة النثر:
لا معنى لبكائك في الفناء
فيما الغرف تضجُ بالضاحكين
لا معنى لجلوسك على خوازيق الوقت
فيما الكل تخلى عن مؤخرته
لا معنى لسكب أطفالك في النهر المقدّس
والحروب تشربهم فيما بعد
لا معنى لبقائك محتفظاً بمياهك الآسنة
وأنهار الأزقة تتضور جوعاً وعطشاً
لا معنى لبقائك على قيد السرير
وقد ساحت رجولتك بعيداً عن مصباتها
لا معنى لصمتك وسط هذا الضجيج
وفي قصيدة (مثل نبي يتوسّل معجزة) يضعنا الشاعر أمام العجز وقلة الحيلة، ننتظر التغيير لنبي ينتظر معجزة من إله خاو، وهي حالة تشير في دلالاتها الى حالة العجز وعدم امتلاك القدرة على التغيير:
مثل نبيّ
يتوسل معجزة من إله خاو
عرشه على الماء
وحرّاسه في الرمل
وهكذا نجد تنوعاً واختلافاً في عملية بناء القصيدة، ووحدة موضوعها وثيمتها، وحتى شكلها، فقد حفلت الكثير من القصائد بتناص مع سور من القرآن الكريم، مثل سورة الكهف، وسورة يوسف وغيرها، وكذلك ضمت هذه المجموعة قصائد مختزلة، أو قصيدة الومضة، وفي قصيدة (أنا بخير) يستعرض لنا الشاعر بعضا من تلك القصائد:
لا تقلق
إنه ليل مزمن فحسب
قالها رجلٌ
حصدوا عينيه
ببقايا كأس
***
يرجوني الشتاء
أن اتوقف عن الصراخ
من شدة البرد
وهو لا يعلم
أنني بلا فم
أما قصيدة (أبي..) التي ارتبطت بنية عنونتها بمتنها وصارت جزءاً مكملاً، ينطلق الشاعر من خلاله، ليتحدث عن خسارات الأب في هذا العالم، والرؤية الفنية التي اخذها الشاعر مستلها من عالمه الشعري:
ذلك الطائر الذي حلّق في أوهامه
ذات يوم
بحثاً عن جناحيه العاريين
وصل الأعالي
فوجد عشّه الأول
وقد اصيبت جدرانه بالأرق
أنتظر حتى الصباح
فلم يعرفه أحد
سار مبتعداً
حتى لقيّ غيمة مهجورة
فجلس تحت ظلها الشاحب
وفجأة هبّت عاصفةٌ من الملائكة
وفي موطن من قصيدة (لست سوى أنا) نجد الشاعر يناجي أمه في غربته، وشوق رؤيته اليها وهو يتداعى لفقدها، ولوعة فراقها يشتعل:
فأنا باقٍ في غربتي
كما أنت باقية هناك
باقٍ لأذبل
وأرى أوراقي، تأكلها الريح
عودي يا أمي
عودي قبل أن ترتجف الجدران
فهي واهية كقلبي
عودي، فأنا سألقاك
قرب نهر
حيث كنت تحمّميني
وأنا أصرخ
كطير يخشى الغرق
عودي قبل أن تأكل الشمس ملامحي
فلا تعرفينني
أنا لستُ وحيداً
معي رؤوس كثيرة
وهكذا نجد أن عملية بناء النصوص الشعرية لمجموعة (مثل نبي يتوسّل معجزة) للشاعر سلام مكي، تؤكد بشكل لا يقبل الشك أن قصيدة النثر فيها الكثير من الإبداع، وفيها الجديد والمبتكر، فقد كانت صناعة القصيدة في هذه المجموعة خطوة متطورة وحديثة.