استطلاع: صلاح حسن السيلاوي
صار من الواضح أن المشهد الثقافي يعيش عزلة شبه تامة عن المجتمع، فما تطرحه النخب الثقافية من شعر وسرد ومسرح جاد ومؤتمرات بحثية وثقافية عامة لا تتلقاه إلا النخب ذاتها، هذا يعني أن النخب المعنية لا تستهدف جمهورا إلا نفسها، بل إن جمهورها النخبوي أصبح شرائحيا بمعنى أن الشعراء هم جمهور الشعر والسرديون جمهور السرد والنقاد جمهور النقد. وفي هذا الجانب أصبحنا نتجه نحو ما هو أضيق من مفهوم (الشرائحية) فشعراء قصيدة النثر هم جمهور قصيدتهم، وكذلك يفعل مع أنفسهم شعراء القصيدة العمودية.
على هذا الأساس من التفصيل، هل يمكن الاعتراف بأن النخبوية مرض ثقافي، وأنها لا تقل خطورة عن الشعبوية؟،
هنالك من يرى أن النخبة تفرض أوهاما وأنها تعتزل لنفسها أنماطا خاصة من الثقافة، وبهذا تترك المجتمع لثقافات أخرى تفرضها عليه السلطات الدينية والسياسية والاقتصادية؟.
ربما تكون النخب مسؤولة عن شرعنة عزلتها وتضييع جمهور الأدب والثقافة ورميه في أفواه ثورة الإعلام المجتمعي (وسائل التواصل الاجتماعي).
متى يمكن للنخبة ان تكون قريبة من الجمهور قريبة من حاجته الى خطاب صناعة الذات الاجتماعية؟.
مرض الانفصال عن الواقع
توجهت بهذه التساؤلات للقاص عبد الأمير المجر فأشار بإجابته إلى أنها أعادته الى حوار مع المفكر جورج طرابيشي، قبل رحيله بأعوام، قال فيه: لقد هزمنا وعدنا الى القرون الوسطى، وبيّنَ المجر أنه ينقل عن هذا الحوار بالمعنى وليس بالنص، أن الاسلامويين كانوا أكثر قربا للجمهور في فعالياته المختلفة، بينما بقينا في عزلة نحن عنه، سواء بنتاجنا او تفاعلنا اليومي المباشر.
وأضاف مؤكدا: النخبوية مرض يصيب من هو فعلا محسوب على النخبة بنتاجه الفكري او الادبي او الفني وغير ذلك، ومن يعتقد بنفسه انه بات من النخبة وان عليه ان يختار المكان الذي يجب ان يجلس فيه والمنبر الذي يتحدث من خلاله فيأخذه هذا الشعور الى الابتعاد عن الناس تحت ضغط اوهامه هذه.. لقد كتبت قبل فترة وبعد التجربة الطويلة التي عشناها، ان مصطلح المثقف لم يعد ينطبق بالضرورة على أي شخص يكتب، لان الكثير من الكتاب يمتلكون القدرة او ملكة الكتابة لكنهم لا يملكون الوعي والثقافة الكافية ليضيئوا للآخرين من خلال منتجهم، بل احيانا يكونون عبئا على الناس في طروحاتهم ومواقفهم، وهناك عشرات بل مئات الأمثلة على من كانوا يعدون رموزا ثقافية لكنهم سقطوا في امتحان الوطنية والموقف الانساني وبانت انحيازاتهم الجهوية الضيقة بشكل مقرف.
وقال ايضا: لا شك ان النخبوية، وكما قلت مرض، وتفرض على صاحبها اوهاما تجعله ينفصل عن الواقع، وبذلك
فهو يخون رسالته ليجد نفسه في النتيجة خارج المعادلة أو بتأثير شبه معدوم فيها، لا سيما في الظروف الاستثنائية التي تتطلب حضور المثقف واسهامه المباشر.. بالنسبة لي ارى في الكثير من الناشطين ممن يعبرون عن ارائهم الدقيقة بشكل مباشر من خلال وسائل الاعلام او ميادين المواجهة، أراهم من النخبة الفاعلة وأستطيع ان اسميهم مثقفين.
مصباح ديوجين
الشاعر نصير الشيخ يرى أن دور المثقف والمبدع والمنتج هو رسم خرائط الوعي المبكر، وسقي حقول الجمال وبما يشيعه من مثلٍ وأفكار بين الأوساط المجتمعية بمختلف الشرائح وربما المنابر الأكاديمية. فليس دائما تقع عليه أحمال التقصير في ما يحصل لـ «النخب»، وليس دائما تصدق عليه مقولة (ان المثقفين هم أقدر الناس على تبرير الخيانة). وقال الشيخ مبينا: ثمة تفاعلات حصلت للمثقف العراقي ما بعد التغيير 2003، كافية لسد مسارب إنبات كل ما هو حيّ وجميل وبما يجعل منه نسقاً متأصلاً في الثقافة العراقية، لكن دوران طواحين التغيير جاءت على وفق معادلات جالبة لكميات هائلة من الريح العاصفة التي أمالت دفة السفن وربانها «المثقف»... وأسلمت قطافها الى السلطات الدينية وعصفها «الغيبي» والى السلطات السياسية باستحواذها على سلطتي المال والسلاح، ومن ثم بسط نفوذها على مرافق الدولة. إزاء كل هذا ما تستطيع النخب المثقفة فعله، وما يقدر عليه المثقف/ المنتج غير حمل مصباح «ديوجين» في نهار الأسئلة المضبّبة.
عزلتان
القاص ميثم الخزرجي وهو يمضي للإجابة عن تساؤل الاعتراف بأن النخبوية مرض ثقافي وأنها لا تقل خطورة عن الشعبوية، يشير قبل ذلك إلى ضرورة الإقرار بخصوصية مشغل الأديب الثقافي وما يترتب عليه من لوازم فنية يستطيع من خلالها أن يشيّد نصه بعناية العارف ليعبّر عن كينونته بدراية وعمق مجترحاً طريقاً مغايراً في ظنه أن يغيّر العالم من خلال نصه الذي يكتبه، وهنا يجب علينا على حد قوله أن نستدل إلى أن هناك نصوصا تنحو منحىً فلسفياً ليوظف الاديب من خلالها كماً من الأسئلة المشاكسة التي تعنى بالدين أو السياسة ليعمّدها بلغة غامضة على أمل أن تمرر من عيون الرقيب، وهناك شواهد لا عد لها من أبي تمام إلى ادونيس.
وأضاف الخزرجي قائلا: المسألة الأخرى هناك معايير ومسلّمات جمالية للنص الادبي تحاول أن ترتقي بذائقة العامة بغض النظر عن تقشف مريديه أو غزارتهم، أما كمرض بنيوي فأنا أتوقف كثيراً عند هذا النسق مقارنة مع التراشق الشعبوي الذي سخّر لأسماء ترفل بالبساطة بأن تندسَّ عنوةً إلى عالم الادب لتعطي سمات مجانية وآراء فضفاضة في كيفية التعاطي مع هكذا مشاريع لها ثباتها وركوزها.
بيد أن الافراط والسمنة اللغوية لبعض من النخب الذين أقحموا نصوصهم بتراكيب مشفّرة تخلق قطوعات وتعقيداً من ناحية التعاطي في سياق النص،
فهذا خلل واضح في فهم الأدب وطريقة تقبله.
وقال أيضا: الأديب هو ابن واقعه لا يمكن أن ينفكّ عنه أو يتسلل دونه خلسة، من ثم تكون عملية خلق النص بالنسبة لديه محملة بالأوضاع المكدرة وملابساتها المستعرة وإن حاول تمرير نص بعين واحدة فهذا افتعال مقصود يظهر في أنساقه الثقافية ويدخل في خانة النفاق الأدبي، ما أود قوله: هناك عزلتان، عزلة فلسفية كونية تفرضها الرؤية الوجودية بالنسبة لديه ليهيم في عالمه متفرداً بطرحه مدافعاً عن نظرته المتفقة مع متبنياته، والعزلة الأخرى هي ما يفرضها واقعه عليه وهذه أشدّ وأقسى من غيرها وتحتاج إلى دراسة مفصلة لنفي
غايتها.