أ.د.سعد التميمي
يحيل العنوان كعتبة لها دلالاتها في ديوان الشاعر صادق رحمة محمد (مرايا المدن المحترقة) الى مجموعة مرايا لمدن جمعتها محرقة الحرب، أراد الشاعر أن يقدمها للمتلقي من خلال تقنية المرايا، فكانت هناك مرآة للكل مدينة من المدن الخمس التي طاف بها الشاعر في رحلته السندبادية التي تشكلت من سبع رحلات على غرار رحلة السندباد، وفي كل رحلة كان يطوف على مدن الخراب في تناص مع الرحلات السبع للسندباد البحري التي لقي فيها المصاعب والأهوال واستطاع النجاة منها بصعوبة، وهذه المدن أربع منها استعادت الحياة من جديد إلّا أن الشاعر يسترجع ذاكرة الحرب العالقة في أذهان الناس، وهذه المدن هي (ستالينغراد، لينينغراد، كييف، موسكو) التي كانت ضحية لمغامرات هتلر، إذ احتل كييف وحاصر الأخريات اللواتي صمدنَ رغم ما حل بها من خراب ودمار، أما المحطة الخامسة في رحلة الشاعر فهي (بغداد) التي توالت عليها الحروب (حرب تلو أخرى، أولى، أخرى، طولى، صغرى، أغلى، أحلى)، اذ اقتصرت عليها رحلة الشاعر السابعة فكانت رحلة توثيقية لماضي وحاضر ومستقبل بغداد، تضمنت الإشارة الى الحروب التي توالت عليها فمزقت نسيجها كما في قوله:
كأن زمرَ الجيش الشعبي انتشرت
فوق سطوح منازلنا
تبشرُ بالموت القادم من جهة الشرق
كأني رأيتك تئنين تحت سُرفِ الدبابات الأميركية
كأني رأيتُ ضباع الحرب الأهلية
تنهش عاصمة الفقراء
الرحلة هنا تختلف عن الرحلة السابعة للسندباد الذي عاد فيها الى بغداد ليعيش بسلام وأمان، فالشاعر يستبعد أن تعود الحياة من جديد لتكشف أسرار الحرب (تنهش عاصمة الفقراء) لتتجسد مأساة المدينة في هذا الصراع بين الأمل والألم في صور شعرية تقوم على الانزياح والمفارقة.
ويأتي وصفنا لما قدمه الشاعر صادق رحمة بالديوان ـــ القصيدة: لأن نصوصه أشبه بالمقاطع التي تشكل في مجموعها قصيدة نثر طويلة تتكون من مقاطع كان التحول فيها من مدينة الى أخرى من خلال تكرار كلمة (مرآة) المضافة إلى اسم المدينة مما يوحي ببداية قصيدة جديدة، فالثيمة المهيمنة في الديوان هي الحرب وآثارها المادية والنفسية على المدن، ويلجأ الشاعر إلى توظيف بعض الرموز التي تحيل الى مفاصل مهمة في تاريخ هذه المدن، لما تثيره هذه الرموز من دهشة تستفز المتلقي وتضمن تفاعله مثل تمثالِ (ماما ييف) الوطن الأم الذي يرمز للصمود والانتصار في معركة ستالينغراد، و(الفوهرر) رمز النازية هتلر، (اولغا) أميرة روسيا و(آلا بوغوتشوفا) أشهر العازفات السوفيتيات و(سيرغي يسينين) أهم شاعر روسي في القرن العشرين، و(سيرغيفيتش) القائد الذي هزم هتلر، و(رحمانينوف) من أعظم عازفي البيانو الذي تميزت موسيقاه بالروح الشرقية، فهذه الرموز لم تأت صدفة بل تشتغل سيمائيا لتحيل الى دلالات وأفكار تسهم في رسم مشاهد تحولات العنف والخراب التي يطرحها الشاعر في هذا الديوان في حالتي الحرب والسلم اللتين تتناوبان في المقاطع أو القصائد، وأن غلبت صورة الحرب كون الشاعر ينطلق من بغداد تلك المدينة التي تكالبت عليها الحروب وأصبح السلم حلما ينتظره الشاعر.
وتتحرك المرايا من خلال المكان لتلتقط مشاهد لتقديم ديستوبيا شعرية، فالمدن التي يتنقل بينها الشاعر ينتشر فيها القمع والفقر والظلم وتتراجع فيها القيم الإنسانية تحت نيران الحرب، فالمحطات التي تعكسها مرايا الشاعر في المقاطع أو القصائد هي مخلفات مدن محترقة بفعل أنظمة استبدادية وحروب دمرت ملامح الجمال فيها، وجاء اختيار هذه المدن للوقوف على أطلال الحرب وتصوير الخراب والدمار، إذ يقول في (مرآة لينغراد 6):
أنا،
إن أنا أسرفت في الحلم
تخلع المدينة بزّتها العسكرية
وترتدي الساتان الأبيض
وتُراقص الشبّان في الشوارع.
إن أنا أسرفت في الحلم
أدعو ذلك الألماني القابع
هناك
الى مطعم البلدية
كي نسوي خلافاتنا
بطريقة ودية.
فالشاعر يحلم بمدينة كفتاة جميلة تراقص شبابا حالما بالسلام والجمال، كما أنه يحلم بعقد السلام مع العدو الألماني الذي يتربص بهذه المدينة (لينغراد) من أجل دفع خطر الحرب بعيدا، ولما كان الشعر حقيبة التذكارات غير المرئية على رأي الشاعر الأميركي كارل ساندبرغ، وأن وظيفته المساعدة على استعادة مواقف أحلامنا على رأي الفيلسوف غستون باشلار، فإنّ مرايا صادق رحمة تختلف عن مرايا غيره من الشعراء فهي تكشف عن الذات المحاصرة وروح الكون فيها، وهذا ما تكشفه المقولات التي قدم بها الديوان، اذ تقوم المرايا بوظيفة سردية وتعبيرية تتجلى في السياق الشعري وتعكس صورة الواقع والألم، وقد نجح من خلال تقنية المرآة في سرد الأحداث واكتشافها وتحويل الواقع الى صور شعرية معبرة ومجسمة بأبعاد ثلاثية تجعل المتلقي يتجول في فضاء المدينة لينتقل عبر المرآة الى زمن الأحداث فضلا عما يريد الشاعر أن يبثه من أفكار ورؤى تفتح النص على جملة من القراءات والتصورات للموجودات.
وقد استطاع من خلال المرايا التي اسقطها على الواقع من خلال المدن المحترقة أن يقدم أفكاره لما تقدمه من مساقط متعددة الرؤى، ليتسنى له التعبير عن ذاته وذات الآخر، فالشاعر يدمج الواقع المثقل بالخراب والدمار والظلام بالحلم الذي يلجأ اليه أحيانا للتعبير عن تطلعاته وتطلعات الآخر، واللغة التي يصور بها مدن (لينغراد) أو (ستالينغراد) مغايرة لتلك اللغة التي يصور فيها الشاعر بغداد وهذا ما يعكس الوعي بضرورة التوافق بين اللغة وما تحمله من دلالات واحالات.
وتقتصر الرحلة السابعة على بغداد يستعرض فيها ما مر ببغداد من حروب مزقتها من خلال العودة الى الماضي وصولا للحاضر بقوله في (مرآة بغداد 7):
كأن زمرَ الجيش الشعبي انتشرت
فوق سطوح منازلنا
تبشرُ بالموت القادم من جهة الشرق
كأني رأيتك تئنين تحت سُرفِ الدبابات الأميركية
كأني رأيتُ ضباع الحرب الأهلية
تنهش عاصمة الفقراء
كأنا كنا هناك
كأنهم كانوا هنا.
وكأن القدر قد كتب عليها أن تكون ملاذا للفقراء، وألا تغادرها الحروب فتكرار حرف التشبيه (كأن) يعكس خوف الشاعر على المدينة التي يتربص بها الموت، لكن هذا التشاؤم لا يمنع الشاعر من الحلم الذي يمكن أن يظهر بين الحين والآخر رغبة في التحرر والانعتاق من هذا القدر المتمثل بصور الحرب والدمار التي عكستها مراياه التي ربطت الماضي
بالحاضر.