طالب عبد العزيز
عنايةٌ كتابيةٌ واحدةٌ قادرة على صنع كتاب جميل. لكنْ، تظافر أكثر من موهبة وعناية يصنع لنا كتاباً أجمل بكل تأكيد، وهذا ما كان في كتاب (أنا ورافع الناصري- سيرة الماء والنار) للكاتبة والمترجمة والشاعرة مي مظفر، الصادر عن المؤسسة العربية -2021 بعمّان. الكتاب الذي استنفذت فيه كاتبته قدرتها على الروي والقصّ والتحرير ايضاً، فجاء نسخة فريدةً، حاويةَ كلَّ عناصر الصدق والجمال، تقصت فيه حياة طويلة كانت الابهى والاعنف، امتدت لأكثر من نصف قرن،عرفتنا فيه على مرحلة فنية وأدبية، هي الاهم في مسيرة الثقافة العراقية، وسنوات تشكلها منذ الستينات حتى وفاة رافع الناصري في شتاء 2013.
ومع أنَّ الكتابَ يُدرج ضمن كتب السيرة الشخصية، إلا أنه يمنحنا مساحة واسعة، للوقوف على نشأة المدنية العراقية، وقيامتها الأولى بوصفها أكبر حاضنة للتحضر والفن والثقافة، داخل الاسر البغدادية العريقة، الحياة التي كانت الممهدة الحقيقية لتأسيس مجتمع جديد، قائم على الارتباط الوثيق بين السياسة والفكر والاقتصاد. ولعل جملة الصور المرفقة لأسرة الكاتبة، في عشرينات وثلاثينات القرن الماضي تمنحنا معاينة أكثر لمعرفة ماذا يعني أن تكون فنانا وبغدادياً، بما يوقفنا على رقيِّ التجارب الفنية، والعلاقة باذخة الجمال، التي جمعت مي ورافع داخل اللوحة واللون والضوء وصالة العرض والنادي الليلي، في عالم نصفه مخمل ونصفه الثاني أرقّ وأشفَّ من ذلك.
تذكرتُ المرأةَ في رواية (النفق) لأرنستو ساباتو، التي وقفت متأملة، إحدى اللوحات بمعرض الفنان، بطل الرواية، فذهبتْ تبحث عنه، بينما هو الآخر ذهب يبحث عنها، في متوالية عشق وبحث لا اتذكر نهايتها. مثل بطلة ساباتو وقفت ميّ مظفر أمام لوحة، في بيت جبرا ابراهيم جبرا، وقد استوقفتها طويلاً، كانت اللوحة بما يشبه موجة بحر فيروزي، أو جسد امرأة في حالة عشق، فتسأل عن صاحبها، فيرد جبرا بأنها لرافع، ألا تعرفينه؟ وفي بيت أتيل عدنان وسيمون فتّال بباريس صيف العام 1979 سيكون لقاؤهما الاول، اللقاء الذي أنبت شجيرة الحب بين فنان مشاكس ومتمرد، يفكر بالسفر والتجوال في مدن الله وكاتبة مغرمة بالشعر والفن والموسيقى، موظفة في شركة للتأمين، اسم معلمها الاول نجيب المانع.
تقول مي:" في يوم شتائي قارص، وبينما كنا نتناول فطورنا، كان رافع جالسا في مكانه المواجه للشباك العريض، المطل على الوادي، يسرح بعينه في الفضاء الرحب قال: انظري الى السماء، ما أنقى زرقتها؟" وفي غرفة مكتبها بالطابق الخامس، كان رافع يجد الحجة تلو الاخرى، ليصعد حاملاً إعلاناتٍ رسمها للشركة فيقول لها:" لا يليق بك أنْ تجلسي في مكتب حديدي، ينبغي أنْ يصنعوا لك مكتباً شفافاً. هذه العلاقة التي كان اللوحة مركزها اثمرت ثنائية الرسم والكتابة، صنعت حياة ظلت تتنقل بين مدن وعواصم عربية وعالمية، وكانت شاهداً على ولادة جماعة (الرؤية الجديدة) رافع والعزاوي وسمرجي والجميعي وفتاح
الترك.