د. حسين القاصد
إن أي نص إبداعي ليس له أن يكون مخلوقاً جديدا بالمعنى الانفصالي التام عما سبقه، وبصورة أدق من هذا حين نتقدم عن الزمن الجاهلي وزمن صدر الاسلام، نجد أبا الطيب يقول:
وصرت أشك في من أصطفيه/ لعلمي أنه بعض الأنام
ولو أمعنا قليلا لوجدنا جذرا للشك، فهو مرتبط بما قيل من شعر في الماضي، لذلك استثمر ذلك النسق وجدانيا، فأنتج بيتا شعريا معتمدا على مؤهلات الماضي التي تسهم في سرعة تواصله مع المتلقي، لاسيما أن الماضي قريب ومشترك؛ وهنا يجد النقد الثقافي نسق الاتكاء على الماضي، ليجعله الشاعر جسرا إلى المتلقي، بينما تجد الذرائعية أن التأويل التداولي يشي بالاقتضاء التداولي، فالمعنى الواضح هو أنه فقد الثقة بالآخرين، لكن هذا لا يمنع من أن نقول إن الناس ليسوا أهلاً للثقة، وفي كلا التشخيصين الثقافي والتداولي نرى أننا بحاجة شديدة للتواصل، فالتواصل، عبر هذا البيت المتكئ ثقافيا وتداوليا على سلف شعري، يحقق غاية الشخصية؛ والحوار الإبداعي هو رسالة إلى متلقٍ، وهذا المتلقي من حقه أن يرى صورة الحياة التي ولد في كنفها هذا البيت، ولنأخذ بيتا آخر لأبي الطيب:
وضاقت الأرض حتى كان هاربهم
إذا رأى غير شيء ظنه رجلا
ولا شك أننا نلمس ترسيخا للخوف، فالهارب لا يكون ضمن مجموعة، لاسيما أن الحرب كانت بالسيوف وليس بالأسلحة الكيمياوية والقنابل النووية؛ بمعنى أن الهروب انفرادي، وأي انفراد مرعب، فالشك عنده ليس حاضرا إنما هو ماض مموه، كذلك الخوف عند “هاربهم” الذي جاء على لسانه هو تكرار لمعرفتنا أن السير في مكان خال بشكل انفرادي يشكل رعبا يصل إلى أن المرء اذا رأى غير شيء ظنه رجلاً؛ وتكرار معرفتنا للشيء لا شك أنه نافع جدا، فمن بعض اشتراطات النقد الثقافي هو أن يكون الناقد الثقافي ملمّا ببعض ما يخص المبدع قبل أن يتناول منجزه؛ لذا نرى أن الناقد الثقافي يكون - على الغالب- معنيا بسلوك المؤلف وحياته أكثر من عنايته بنصه الابداعي، لأن النقد الثقافي معنيّ بالنسق المضمر وفضح عملية التسلل إلى الغايات بأسلحة بلاغية للتغطية على غاية مضمرة، وهو ما نجده-أيضا- في التأويل التداولي، فحين قال: (صرت أشك في من اصطفيه...) فقد أبلغنا بطريقة غير صريحة أنه كان لا يشك بأصفيائه، وهنا تبدأ أسئلة الناقد الثقافي، هل ـ حقاً ـ صار يشك، وهل كان لا يشك في أصفيائه سابقا؟ وكيف وهو القائل:
خلقت ألوفا لو رجعت إلى الصبا
لفارقت شيبي موجع القلب باكيا