ياسين طه حافظ
في الشعر والنثر، في الأقاصيص وفي الأخبار وحيث نكون، نسمع الذم والأسف واللا إنصاف والخسران. ذم للزمان ما انقطع يوما، حتى ممن حظوا بثروة ومال وما شاكستهم الظروف. فالزمان المدان لم يمكنهم من كل شيء وهو أمر غير مرضٍ ولا يوجب الشكران
الماضي، لاسيما ماضي الشعوب مزمنة الفقر، لم يكن طيباً. ولكننا نسمع دائماً مديحاً للماضي أو حنيناً أو حسرة على ما كان. حقيقة الأمر لم يكن شيئا يستحق مثل هذا، أعني هذه الثناءات ولكنها تنبع من مصدر واحد، هو عدم الارتياح من ظروف وعيش اليوم. إن كدراً، منغصات، سوء حال في الحاضر، تمنح الشكاوى اسطورية وكأن كان الماضي فردوساً، وكان الناس أخيارا أفاضل والعيش رغداً، فيا للماضي لو يعود!.
ربما اختلطت أمنية عودة الماضي بتقدم العمر وافتقاد زهو وحيوية الصبا والشباب وآمالهما والفرص التي كانت والتي لم نعد أهلاً لها وإن كانت ما تزال أمثالها توافينا. نعم قد تختلط مسألة الزمن والإحساس بالدنو إلى ما لا يريح، بالحنين والرضا الأول، لكننا عموماً أمام حقيقة امتداحات الماضي، الذهبي أو الحلو، أو المليء بالقوة والخير والعافية والفضائل. وهذا يتضمن ذم الحاضر والاستياء منه ومما فيه.
الماضي لم يكن طيباً ولم يكن جيداً ومهما كان حاضرنا فالماضي ليس أجمل ولا أفضل منه. لا أريد مشاكسة ولا تحدياً ولا رغبة في الاختلاف. ولكن تعالوا للحقائق ولنحترمها.
في إحصاء 1740 كان متوسط عمر الإنسان 25 سنة وفي 1900 في فرنسا كان متوسط عمر الإنسان خمسين سنة، وارتفع في 2000 إلى ثمانين سنة!
إذاً، الصحة أفضل.
العلاج والرعاية أفضل.
الغذاء أسهل وأكثر تنوعاً.
وسائط النقل أفضل وأوفر..
في ثلاثة قرون تزايدت أعمار الإنسان أكثر من ثلاثة أضعاف!، والان معدل وفيات الاطفال أقل كثيراً والسكن أحسن وآمن والعبودية والسخرة أقل.
هل تريدون تفاصيل أخرى؟ كانت العمليات لاسيما في الفم والأسنان، يقوم بها الحلاقون ولم يكونوا يملكون أدوات قلع جيدة، أمواس أو مقصات ولا تعقيماً! وبعض الالتهابات السيئة التي تستوجب، وربما لا تستوجب البتر، كان يقوم بها الجزارون والحطابون، فما رأيكم الآن في الماضي؟ دعوني أقدم لكم المزيد:
الناس اليوم ألطف أجساداً ووجوهاً وثياباً ورائحة. كان الماء في الماضي أما قليلاً أو بعيداً ولا يأتي إلى المنازل وكانت النساء، أو العاملون بأجر ينقلونه للشرب والطبخ فالاستحمام إذاً قليل الناس نادراً ما يغتسلون وبعضهم كان يبلل خرقة ويمسح جسده إذا أراد أن يكون نظيفاً.
ما كانت نزهات ليلية ولا معارض ولا أمكنة بهجة، كانت الشوارع قليلة الإضاءة والليل للمجرمين، وقد يقتلون إنساناً من أجل معطفه أو حماره أو دراجته.
يذكرني هذا، بما ذكره الشاعر بشر بن ابي حازم وهو يرثي ابنه الذي أدركه الليل فالتجأ لقوم. لكن أولاء قتلوه من أجل ثوبه وسلاحه. أبوه الشاعر يقول بألم:
وما هو إلا ثوبه وسلاحه
ولستم بلا ثوبٍ ولستم بعُزّلِ!
هذه صورة من الماضي. لا أظن أي جمال فيها كانت الرحلات طويلة والعصابات على الطرق وأخبار سلبوا هذا أو هم إن لم يقتلوه اخذوا حصانه وتركوا يعود مشيا فافترسته الذئاب، هل ترون كم هو حجم اللطف في الماضي؟ كانت الأمراض تفتك بالناس والمجاعات تفتك بالناس والناس يحارون كيف يخبئون خبزاً للشتاء إذ لا طعام وتنقطع الطرق. كان الإنسان يبحث عن طعامٍ من لحاء الأشجار وبعض الجذور وقد يصطاد حيواناً فيفرح وقد يصطاده الحيوان!.
اليوم، والحمد لله وللحضارة، نسكن في بيوت من طابوق واسمنت ونقفل أبواباً واضواء الدار في الداخل والخارج وثمة ثلاجة لحفظ الطعام الزائد ومجمدة لما نرجوه وثمة مخزن وراء البيت نشتري منه إذا احتجنا إلى شيء وعلى المائدة طعام كافٍ وربما اكثر من فاكهة واحدة ولنا مدافئ وخزانات لملابس الشتاء فلا خوف من برد وفي الصيف أجهزة تبريد وأحياناً حدائق وأحواض سباحة وماء للاغتسال والاستبراد وماء للشرب ليل نهار...
إن امتداحنا للماضي وحنيننا اليه امتداح وحنين كاذبان. اقرؤوا كيف كان يعيش الإنسان وحتى إلى قبل خمسين سنة.
مرة، وأنا طالب في العالية 1959، لنا حصة واحدة في الاسبوع للعربية، الاستاذة، وهي شاعرة، رحمها الله، بزهو رومانسي، لا أظنه يخلو من ادعاء، قالت عن أكواخ وراء السدة، خلف العالية، «ليتني أعيش مثل هذه الحياة البسيطة وفي كوخ بسيط من هذه الأكواخ». كنت تلك اللحظة وقحاً وجريئاً، قلت لها: أستاذتي، لا ضرورة لأن تبقى هذه أمنية في نفسك أتركي بيتك في المنصور وعيشي في كوخ على هذه المستنقعات، حيث الكلاب السائبة والذباب والتبرز في صفائح يرمونها بعيداً قليلاً.. وهنا صرختْ: كافٍ! سوف أتقيأ!
حسنا أن نتقيأ من الماضي!