ستار زكم
من يريد التميز بالكتابة في الراهن الإبداعي عليه أن يختار كتابة مختلفة بعيداً عن السائد المألوف/ بعيداً يغرد خارج السرب. وهذا ما اختارته الشاعرة ابتهال بليبل في كتاباتها الشعرية، حيث المجموعة الشعرية (جسدها في الحمام).
ولعل عنونة المجموعة الشعرية تشي لنا بكتابة تحررية كونها اتخذت من الجسد باعتباره مكونا انسانياً دعامة أساسية في مسار كتاباتها ليذوب الجسد في المكون النصي للمجموعة بأكملها؛ بغية تحرر المرأة من قيودها والأسيجة التي تسور حياتها واختيارها لـ (جسد) لم يأتِ من باب الغواية كما وصفه بعض النقاد. بل كان بمثابة كشف الآخر، أي أنها عملية فضح وإدانة للتلصص والتقاليد التي تكبل حياة الشاعرة، وهذا يبدو واضحا وجليا من خلال متابعة النصوص الشعرية، وخاصة نصها الذي حمل عنوان المجموعة ذاتها (جسدها في الحمام)، إذ يعد أفضل النصوص تفرّدا وتميّزا.
(هل يدل هذا الحمام عليَّ؟ لقد كنت أدخله بأجساد وأوقات لا تراني.. الأوقات التي تمشي دائما مثل سنوات عمري بحثا عن اللا شيء، مثل طير يُحلّق عاليا للفعل ذاته.. الأمر أيسر في الحمام حيث الهروب، السكينة، وأحيانا الانهيار) ص19.
تعرية الجسد عبر المخيلة والتدوين على الورق هو بمثابة تعرية لأفكار الآخر، وكذلك تعرية الأشياء والأفعال الأخرى التي تقف بالضد من حرية المرأة.
المرأة في نظر بليبل حبيسة المكان الواحد لذلك هي تقوم بتعرية المخاتلات والانزواءات وجميع ملاذاتها لفك الأسيجة عبر رسائلها الشعرية التي اقتربت من لغة السرد بغية طرح مشكلاتها وأحساسيها لتعري الصورة النمطية المحفورة في الذهن الذكوري السائد.
بليبل هي الألم الذي يتكدس داخل الأنا بسبب عسر التعبير الصوتي داخل هذا الفضاء الحياتي. لذلك تعد هذه الكتابة بمثابة البديل الإبداعي الذي يصل بطريقة تكون مجاورة للعقل ومعدة للفهم أكثر فيتفجر عند عتبة الابداع الذي وصلت اليه ويندفع الغاطس وتظهر المتراكمات المطمورة إلى أعلى نقطة من الإفصاح والإشهار وإظهار المخبوء والمحبوس في العمق الضاج بالحسرة والحيرة من عالم لا يشبهها أبدا.
(عندما يدق جرس المدرسة، التدافع عند بوابة المغادرة، مثل قطيع تناول توا فضلات العالم ببراءة مثيرة) ص134.
عندما نقرأ نصوص الشاعرة نشعر بأنها لا تعبر عن مفردها أحيانا بل تعبر عن جيلها من النساء الأخريات لذلك نرى في اشتغالاتها الفنية إظهار التقاليد الاجتماعية البالية وما يحيط بها لتعبر عن مرارة المرأة المقيدة او الراضخة والراكعة لتلك الحياة المسيجة بتلك التقاليد.
(مثل امازونيات او نساء محاربات كافأت نفسي بقطع الثدي الأيمن.. نحن اللائي كنا لا نملك عشاقا، سرقنا حمالات الصدر.. لقد كانت من الدانتيل الأسود الممزوج بالساتان. وبخيبة، حاولنا ان نرتدي فساتين عارية الأكتاف، الفساتين تتساقط واجسادنا تعرف القليل عن إغراءات العناق وتحمل داخلها أسرارا كاملة) ص61.
يُخيّل لي أن الشاعرة ترفض التعرّي بمعناه الحقيقي لكنها أرادت أن تنطلق من عتبة التعرّي كفوهة باعثة للعديد من الحطام الذي يسورها وحياتها غير المتوازنة. إنها صرخة مدوية وسط زحام ذكوري يهيمن على ممارسة حياتها بشكل تام. فلم تجد بليبل سوى أن تقدم لنا أنموذجا معينا تقوم بتعريته لإعادة صياغة المفاهيم. لذلك وصلت بليبل الى عمق المحظور فالجسد هنا علامة مخفية ومستورة باعتبارها أيضا مركز النظرة المتوحشة للعنصر الذكوري.
(لقد كنت وحدي ابتكر زنزانة كفضيحة تلاحق ذاكرتي لأتركني مثل نزيلتها الوحيدة، وحده جسدي في انتظاري دوما، ربما سيعود كما الماء الذي تبخر الى الماء) ص21.
هذا النوع من الاشتغال الفني يعد مركزا للإشعاع والوصول بقوة إلى ذهن القارئ لأنها تقدم المحسوس على الفعل المسموع من خلال عرض صوري محسوس ومتوهج وصارخ وهو فعل مؤثر في البنية المجتمعية أكثر من اي فعل آخر لأنها تضعنا امام صورة الجسد الناطق عبر مستوى متناغم بين الجسد والرغبة بعيدا عن الابتذال الآيروتيكي اي بعيدا عن سطحية الكتابة الغريزية.
لأن الشاعرة تقدم لنا جسدا ناطقا ينتصر امام الخطيئة امام ثعابين تتلصص دوما على المرأة ونمور تحاول افتراس أناقة الغزال. إنها صورة الغزال الذي ينعم في فضاء محدود بعيدا عن صورة التوحش، فلا ملاذ إلّا في أسوار ضيقة ينعم الجسد/ الغزال لفترات محدودة قبل الانقضاض عليه. فالحمام هنا محطة من محطات الأمان ولحظة استرخاء للتفكير بعمق نحو عالم غريب. لذلك نجد العري هنا ليس فاضحا بمعناه الآيروتيكي لأنه عري مغلف بأشواك ومسامير مدببة. عري مخيف تتخيله الشاعرة وتشعر بمأساته.
(يلزمني الآن.. أن أتخيل ليلة داعرة، مثل شهوة تركض كذئبة شرسة في دمكم) ص83.
تقدم الشاعرة هنا بوحا شعريا غزيرا يحتوي مقاربات حياتية عديدة دوّنتها بلغة تقترب من السرد وفق كتابة مفتوحة حيث الإجادة في تقديم المفارقات بين ثنائيات عديدة تعد بمثابة دعامات وركائز كمعادل موضوعي للصورة الشعرية المفقودة وحالة من التشويق للتتابع القرائي، وهذا يعد ذكاء واضحا من الشاعرة لإبراز امكانياتها في الكتابة التجريبية فتستهويها المحاكاة مع الأشياء وهي تفرغ همومها وما تتعرض له من قمع من خلال بعض العناوين والمفردات تجعلها وسيلة للتعبير مثل (المقص كائن مفترس/ الفستان/ البخار/ جدران الحمام/ النافذة/ المياه الآسنة/ مقبض الباب/ المرايا/ الباب/ الآخر المتخيل خلف الجدران/ الحمالات وما تتركه من اثر على الظهر/ الماكياج/ العطر/ النهد/ السيقان).
حيث تقول في ص31..
كنا فتيات، جعلتنا حمالات الصدر بنهود فاجرة بمعتقداتهم.
وتقول في ذات الصفحة اعلاه...
لقد كان لا يسمح بشرها على حبال الغسيل حتى لا تفقد طفولتنا مثل عصافير تطير هاربة من اقفاص، وحتى لا يجتهد الشباب بالتلصص عليها، ولا يسمح بارتداء الفساتين والقمصان الشفافة، هكذا، ليختفي ظلها، خيالها، عن المارة.. ولا حتى يخلع اجسادنا منها إلا بوقت النوم وعلى السرير.
ابتهال بليبل تحاكي نظرة الآخر/ نظرة العائلة التي تجعل الفتاة تخجل من ذاتها لا لشيء سوى انها خلقت فتاة وترتدي ما ترتديه اي فتاة في هذا العالم الذي نعيشه فالأسيجة تكون حاضرة فقط على الأنثى التي لا ذنب لها في تشكيلها الأنثوي.
هذا التداخل بين ما هو حياتي وفني أعطى النص الشعري توهجا أكثر. فضلا عن ان ابتهال بليبل لا تتلاعب بالمفردة في هذا الاشتغال الفني بل تتلاعب بالمعاني التي تخرج من الحدث الصارخ فهي الجمرة المتقدة التي تشعل فتيل النص وتعطيه أكثر تماسكا وتأثيرا لدى المتلقي تلك الكتابة التي تصل مثل البرق الى اذهاننا وتعطينا صورة ماثلة ومعبرة أكثر من اي اشتغال فني آخر، انها الكتابة المختلفة التي أعطت الشاعرة تفرّدا وتميّزا وسط الساحة الشعريّة.